تباع الدارما واجتناب المعاناة

إن الكلمة السنسكريتية "الدارما" – أو "تشوس" في اللغة التبتية – تعني: أن تحافظ على شيء أو تدعمه. فما هذا الشيء الذي نحافظ عليه أو ندعمه؟ إنه التخلص من المعاناة والمحافظة على السعادة. ولا تفعل الدراما هذا لنا وحدنا، وإنما لكل الكائنات أيضًا.
فيديو: الغيشي تاشي تيسرينغ — "تقدير الدارما"
لتشغيل الترجمة، رجاءً أضغط على علامة "CC" أو "الترجمة والشرح" بالركن السفلي على يمين شاشة عرض الفيديو. لتغير لغة الترجمة،  يُرجى  الضغط على علامة "Settings" أو "إعدادات"، ثم أضغط على علامة "Subtitles" أو "ترجمة"، واختار لغتك المفضل

إدراك المعاناة

وتنقسم المعاناة التي نمر بها إلى نوعين: (١) المعاناة التي تكون ظاهرة لنا في الحال بوصفنا بشرًا تتضمن الألم الذي تتضمنه عملية الولادة، والكدر الناتج عن المرض الفجائي، والتعاسة التي نمر بها عند كبر السن أو الشيخوخة، والخوف من الموت. (٢) المعاناة التي لا نراها بدون قوى خارجة عن نطاق إدراكنا الحسي العادي، وهي التي نمر بها بعد الموت، وهي لا يراها الشخص العادي. قد نعتقد أننا قد نُولَد مرة أخرى بشرًا بعد الموت، ومع هذا ليست هذه هي القضية بالضرورة، فليس هناك أي سبب منطقي لأن نفترض أن مثل هذا التطور سيحدث، وليست القضية أننا لن نُولَد بعد الموت مرة أخرى على الإطلاق. 

أما بالنسبة للنوع الخاص من الولادة مرة أخرى الذي سنأخذه، فإن هذا شيء من الصعب جدًّا معرفته، ولا يدخل ضمن نطاق معرفتنا الآن. وإذا قدمنا كارما إيجابية أثناء هذه الحياة فمن الطبيعي أن يكون من توابع ذلك أننا سنتخذ أشكالاً سعيدة للميلاد الجديد في المستقبل. وعلى العكس من ذلك، إذا قدمنا الكارما السلبية غالبًا فلن نأخذ ميلادًا جديدًا سعيدًا، وسنمر بصعوبات كبيرة في الممالك السفلية من الوجود، وهذا شيء مؤكد. الولادة الجديدة تعمل وَفقًا لهذه الطريقة؛ إذا زرعنا حبة قمح فإن الذي سينبت هو نبات القمح، وإذا زرعنا حبة من أرز فإن الناتج سيكون نبات الأرز. وبالمثل، بإيجاد الكارما السلبية فإنا نزرع بذور الولادة الجديدة في إحدى ثلاث ممالك دُنيا، إما إن نكون مخلوق جحيمٍ، أو شبحًا جائعًا، أو حيوانًا.

هناك أربع أوضاع أو ممالك مختلفة من الجحيم: (الجحيم الكئيب، الجحيم الحار، والجحيم البارد، والمجاور والحيني). وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك في التقسيم فإنه يوجد ثمانية أنواع مختلفة من الجحيم الحار؛ النوع الأول منها معروف باسم: الجحيم المحيي (الباعث)، وهو أقلهم عناءً بالنسبة لما نتحدث عنه.

ولكي نفهم حدود التعاسة التي نمر بها فإن الألم الذي يشعر به الشخص، عندما يوضع في نار كبيرة سيكون طفيفًا جدًّا، مقارنةً بهذا الذي تشعر به الكائنات في أول جحيم، ويتزايد مقدار الشقاء في كل جحيم تحت الجحيم المحيي.

وبالرغم من أن معاناة مخلوقات الجحيم والأشباح الجائعة قد لا تكون مرئية لنا، فإن هؤلاء الحيوانات يمكننا أن نراهم بأعيننا، وإذا تساءلنا: ماذا سيحدث لنا إذا وُلِدْنا نحن مرةً أخرى حيواناتٍ، يمكننا أن ننظر فحسب إلى حيوانات الشوارع ودواب الحمل من حولنا هنا في الهند، ونفكر في الكيفية التي سيكون عليها الوضع لو كنا مكانهم.

إن الدارما هي ما تكبح جماحنا، وتحمينا من المرور بمعاناة هذا الميلاد الجديد السفلي. وكل العجلة الكلية للولادة الجديدة – كل الوجود المتكرر بطريقة لا يمكن السيطرة عليها أو (السامسارا) – يكون فيها طبيعة المعاناة. والدارما هي ما تصوننا من المعاناة السامسارية، علاوة على ذلك فإن دارما الماهيانا تحمينا وتحمي كل الكائنات ضيقة الأفق (الكائنات الحساسة).

اتخاذ الاتجاه الآمن للملاذ

نسمع كثيرًا في البوذية عن الجواهر الثلاث للملاذ: بوذا، ودارما، وسانغا. وتشمل الأولى من هؤلاء الكائنات المتنورة تمامًا، التي تُدرِّس الدارما. فشاكياموني بوذا كان أول مَن أدار عجلة الدارما في فارانسي، وذلك عن طريق تعليم الحقائق الأربع النبيلة، وهو ذو أهمية كبيرة لنا. وآخر هذه الحقائق الأربع – السبل الصحيحة – هي الدارما التي تمارس لكي تحقق التحرر. وهذا هو هدف اللجوء للاتجاه الآمن الذي يسمى بجوهرة الدارما.

وتستلزم ممارسة الدارما شيئين: إدراك جذر المعاناة السامسارية، واستئصال هذا الجذر. فما أصل الوجود المتكرر؟ إنه السعي وراء نفس موجودة بصفة حقيقية، والسعي وراء الوجود الحقيقي للظواهر. ونحن بحاجة إلى تنمية الكراهية تجاه هذا الطمع، الذي يجلب لنا كل أشكال معاناتنا. ويجب علينا أن ننمي كذلك فهم العلاج لهذا الطمع في الوجود الحقيقي، وهذا العلاج هو الحكمة (الإدراك المميز للأشياء) لعدم الأنانية أو الإيثار، وهذا الفهم للإيثار هو الذي سيجلب لنا التحرر من المعاناة.

لا تحدث الأشياء التي نمر بها في السامسارا بدون أسباب؛ فالسبب هو العواطف المزعجة والمواقف العقلية المزعجة (الأوهام). وكذلك الكارما الناتجة عن هذه العواطف المزعجة، فأصل كل هذه العواطف المزعجة والمواقف العقلية المزعجة الكارمية ما هو إلا مشددا على النفس. وعندما نفهم هذا فإننا نطمح إلى أن نحصل على علاجٍ مشددا على النفس. لماذا لم نطور بعدُ هذا العلاج في مساراتنا العقلية المتصلة؟ لماذا لا نفهم عدم وجود النفس راسخة؟ أحد هذه الأسباب هو أننا لسنا على قدر كافٍ من الإدراك للموت والفناء.

الموت والفناء

إن الحصيلة المحتملة الوحيدة للميلاد هي الموت، فنحن سنموت حتمًا، وليس هناك أي كائن حي لا تنتهي حياته بالموت، ويحاول الناس بطرق عديدة أن يمنعوا حدوث الموت، ولكن هذا مستحيل؛ فلا علاج يمكنه أن يداوينا من الموت.

إن مجرد التفكير في أني سأموت ليس هو الطريقة الصحيحة حقًّا للتأمل في الموت. بالطبع سيموت الجميع، ولكن مجرد التفكير في هذه الحقيقة ليس بالشيء القوي جدًّا، وليست هذه الطريقة هي الملائمة. بالطريقة نفسها لا يكفي مجرد التفكير في حقيقة أننا سوف نتحول إلى حطام ونُنْحَلُ، وأن أجسامنا ستتحلل، بل يجب علينا أن نفكر في كيفية منع سقوطنا.

إذا فكرنا في الخوف الذي يأتي وقت الموت، وكيفية إزالة هذا الخوف، فسوف يكون تفكرنا في الموت مُؤثرًا. فمن تراكم عنده قدر كبير من الكارما السلبية في حياته فسوف يصاب الذعر حين يموت، فتراه يبكي وتذرف دموعه بشدة، ويسيل لعابهم، وتراهم يغرقون في عرقهم، وهذه علامات جلية على المعاناة التي تحدث أثناء الموت، بسبب الخوف الناتج عن الأفعال السلبية التي ارتكبوها في حياتهم.

وفي المقابل إذا امتنعنا عن ارتكاب الأفعال السلبية في حياتنا فسوف تكون لحظة الموت لنا سهلة جدًّا، وستكون الخبرة التي نمر بها من المباهج، مثلما يعود الطفل إلى بيته ووالديه. إذا طهرنا أنفسنا يمكننا أن نموت في سعادة، وبالابتعاد عن الطرق السلبية العشرة، وتنمية ما يقابلها – الأفعال البناءة العشرة – سيكون موتنا يسيرًا، ونتيجة لذلك لن يكون لزامًا علينا أن نمر بالميلاد الجديد في حالة من المعاناة.

يمكن أن نكون على ثقة من ميلاد جديد في أوضاع أكثر حظًّا؛ فإذا زرعنا نباتات علاجية فسوف نحصد أشجار لها قوى علاجية، وإذا زرعنا بذورًا سامة فلن نجني إلا ثمارًا قاتلة، وإذا زرعنا بذور الأعمال البناءة في وعينا فسوف نمر بالسعادة في الولادات الجديدة في المستقبل، وسنحظى بمواقف محظوظة عقليًّا وجسميًّا. هذا المبدأ الأساسي للدارما – وهو تجنب الأعمال الهدامة وتنمية الأعمال البناءة – من المبادئ التي تُدرَّس في عدة ديانات أخرى بجانب البوذية، منها المسيحية.

كيف نتفكر في الموت والفناء؟ كما ذكرتُ من قبلُ فمجرد تفكيرك في كَوْنك ستموت لا يجدي نفعًا، فأنت بحاجة إلى التفكير في أنك إذا ارتكبتَ أحد الأفعال العشرة الهدامة فسوف يكون عليك مواجهة الكثير من الخوف والمعاناة عند موتك، ولذا ستنتقل إلى ميلاد جديد سيئ الحظ بدرجة كبيرة. من جانب آخر، إذا قدمتَ قوة إيجابية (استحقاق) فإنك لن تمرَّ بالخوف أو المعاناة عند الموت، وستولد مرة أخرى في وضع أحسن حظًّا.

وهذه هي الطريقة الصحيحة للتفكر في الموت، وليس هناك داعٍ لأن يكون هذا التفكر مجرد تفكير مكتئب متشائم، فتقول: "سأموت، وليس هناك ما أستطيع أن أفعله حيال هذا". ولكن بدلاً من هذا فنحن نحتاج إلى التفكير فيما سيحدث بعد الموت، فتفكر: "أين سأذهب بعد الموت؟" وما نوع الأسباب التي أخلقها؟ وهل أستطيع أن أجعل موتي سعيدًا؟ وكيف ذلك؟ وهل يمكنني أن أجعل ميلادي الجديد في المستقبل سعيدًا؟ وكيف هذا؟

عندما نتفكر في الولادة الجديدة في المستقبل فنحن بحاجة إلى أن نتذكر أنه ليس هناك أي مكان في السامسارا يمكن الاعتماد عليه، ولا يهم أي جسم سنأخذ، فلا بد أنه سيموت حتمًا. فنحن نقرأ في التاريخ عن أناس عاشوا مئة عامة، أو حتى ألف عام، ومع هذا، وبغض النظر عن مدى روعة هذه الروايات، فلا توجد حالة واحدة لفرد لم يمت في النهاية. إن أي نوع من الجسم السامساري الذي نكتسبه خاضع للموت.

لا مفر من الموت، فأينما كنا يأتِنا الموت عندما يحين الوقت، وعندئذ لن تنفعنا أي كمية من الدواء، أو الصلوات، أو الطب. قد تعالج العمليات الجراحية أنواعًا معينة من الأمراض في أجسادنا، ولكن ليس هناك من هذه العمليات ما يمنع الموت.

وبصرف النظر عن نوع الميلاد الجديد الذي سنكتسبه فسوف يكون خاضعًا للفناء، وهذه عملية مستمرة، وسوف يساعد التفكر في الآثار الطويلة المدى لأفعالنا، وكيفية استمرار عملية الميلاد والحياة والموت والميلاد الجديد، في توليد الكثير من الكارما الإيجابية.

وعلى الرغم من أننا أحيانًا ما نخطط لممارسة الدارما – عادة ما نخطط للقيام بهذا غدًا أو بعد غد – ومع هذا لا يستطيع أي منا أن يحدد متى سنموت. وإذا كان لدينا ما يضمن لنا تمامًا أننا سوف نعيش مئة سنة قادمة فسوف يكون لدينا متسع من الوقت لنرتب في ممارستنا، ولكن لا يوجد أدنى درجة من اليقين عن الوقت الذي سنموت فيه، فمن الحمق الشديد أن نؤجل ممارساتنا للدارما. فنحن البشر مِنَّا مَن يموت في رحم أمه قبل أن يُولَد، ومنَّا من يموت طفلاً رضيعًا، حتى قبل أن يتعلم المشي، ولا يصح بالضرورة أننا سنعيش فترةً أطول.

إن أجسامنا ضعيفة جدًّا، فلو كانت مصنوعة من الحجر أو الحديد فربما كانت ستعطي إحساسًا أكبر بالاستقرار والثبات، ولكننا إذا ما تحرينا فسنرى أن الجسم البشري ضعيف جدًّا، ومن السهل أن يَفسُد أي شيء فيه، فهو مثل ساعة اليد الرقيقة، المصنوعة من أجزاء هشة دقيقة لا تعد ولا تحصى، وفي النهاية فإنه ليس أهلاً لأن يكون محل ثقة.

هناك العديد من الظروف التي قد تسبب لنا الوفاة، مثل: تسمم الطعام، أو لدغة حشرة بالغة الصغر، أو حتى وخزة شوكة سامة. ومثل هذه الحالات الصغيرة يمكن أن تقتلنا، ويمكن أن يصبح ما نستخدمه لنحافظ على حياتنا كالطعام والشراب سببا في نهايتها. وليس هناك يقين على الإطلاق بالنسبة للوقت الذي سنموت فيه، أو أي الظروف التي ستتسبب في موتنا.

حتى إذا كنا متأكدين من أننا سنعيش مئة سنة فقد انقضت سنوات عدة من هذه المدة بالفعل، ولم ننجز إلا القليل. إننا نقترب من الموت، مثل رجل ينام في عربة قطار تقترب من وجهتها باستمرار، ومع هذا لا يدرك هذا الرجل ما يجري. وليس هناك ما نستطيع أن نفعله لوقف هذه العملية، فنحن نقترب أكثر وأكثر من الموت باستمرار.

لا يهم مقدار المال أو المجوهرات أو المنازل أو الملابس التي كدَّسناها أثناء حياتنا، فلن يشكل هذا أي فارق حين نموت، فإننا بعد الموت لا نصحب معنا أي شيء، ولو أقل القليل، فحتى جسمك سوف تتركه خلفك، فالعقل ينفصل عن الجسم، ويستمر العقل بعده وحيدًا، فأن تأخذ معك شيئًا بعد موتك فهذا مستحيل، وأن تأخذ معك جسدك بعد موتك فهذا مستحيل أيضًا.

الكارما

ما الذي يصاحب الإدراك بعد الموت؟ إذا كان من الضرورة بمكان أن نترك أجسامنا وأصدقاءنا وكل ممتلكاتنا فهل هناك أي مساعد أو أي شيء سيصاحب يقظتنا في الحياة المستقبلية؟

نعم، هناك شيء ما يصاحب اليقظة بعد الموت، ألا وهو: الميراث الكارمي (البذور) الذي بنيناه في فترة حياتنا. إذا اقترفنا أيًّا من الأفعال الكارمية السلبية العشرة فإن هذا الميراث أو الدين الكارمي سيصاحب مساراتنا العقلية المتصلة، وهم ذاهبون إلى الميلاد المستقبلي الجديد. ويوضع هذا الإرث الكارمي السلبي في مجرى العقل بقتل الكائنات الأخرى، وسرقة ممتلكات الآخرين، أو الانغماس في الخلاعة والمجون. وبالكذب والافتراء على الآخرين، والتفريق بين الناس، أو التفوه بالتفاهات، فسوف تنتقل معنا في وقت الموت هذه الديون الكارمية لهذه الأفعال السلبية من الكلام.

إذا كان لدينا العديد من الأفكار الجشعة، وتمني امتلاك ممتلكات الآخرين غالبًا، وإذا كان لدينا سوء النية تجاه الآخرين، وتمني الأذى لهم، أو أن يحدث لهم مكروه، أو إذا كنا نفكر بطريقة عدوانية مشوهة في أنه: "ليس هناك حياة ماضية، أو حياة في المستقبل، ولا يوجد ما يسمى بالسبب والنتيجة، ولم يكن يوجد مثل هذا الشيء في الاتجاه الآمن للملاذ"، كل هذه الأفعال العقلية الهدامة سوف ينتج عنها إرث كارمي سلبي، وهي التي تنتقل خلال عقولنا وتوجهها في الولادات الجديدة في المستقبل.

والعكس صحيح أيضًا، فإذا أنجزنا أفعالاً إيجابية، وابتعدنا عن خلق السلبية، فإن الإرث الكارمي – مثل هذه الطاقة الإيجابية – سوف ينتقل في مجرى عقولنا، وينتج عنه ظروف أفضل في حياتنا المستقبلية.

عندما نفكر في الموقف الذي نحن يصدده الآن فسوف نعقد العزم على أن نحاول بشتى الطرق أن ننتج كارما إيجابية، ونتخلص من عكسها (الكارما السلبية). إننا بحاجة إلى محاولة أن نُطهِّر أنفسنا من السلبية بقدر المستطاع، وألاَّ نترك ولو أصغر دين كارمي لندفعه في حياتنا المستقبلية.

إننا نحتاج إلى النظر في نوع ردود الأفعال التي يمكن أن تحدث من خلال قانون السبب والنتيجة. توجد رواية عن شخص كان يمتلك الكثير من الصفات الجيدة، ولكنه كان حادًّا في كلامه، وقد أساء إلى شخص آخر، فقال له: "إنك تتحدث كالكلب". ونتيجة لهذا وُلِدَ – هو نفسه – من جديد كلبًا خمس مئة مرة. فالفعل الصغير في الظاهر قد يتبعه نتيجة كبيرة جدًّا.

وبالمِثل، قد ينشأ عن الفعل الإيجابي الصغير نتيجة كبيرة، فهذه رواية عن طفل صغير، وقد قدَّم لبوذا عرضًا متواضعًا، ونتيجة لهذا وُلِد من جديد مثل (أشوكا)، ذلك الملك العظيم الذي بنى آلاف الصروح البوذية، وله من الأعمال الجليلة ما لا يُعدُّ ولا يُحصى.

نكران الذات والشفقة

إن التأمل في الأنواع المتعددة من الأفعال الهدَّامة التي اقترفتاها وآثارها لهو من الطرق الفعالة لضمان رفاهيتنا وسعادتنا. فإذا فكَّرنا في المعاناة التي يجب علينا أن نمر بها نتيجةً لسلبيتنا فإنه بالتالي سيتولد لدينا الرغبة القوية جدًّا في ألاَّ نمر بهذا النوع من الشقاء، وبذلك نكون قد تطوَّر لدينا ما يسمى بـ "نكران الذات".

إن تعريف أنفسنا بمثل هذا النوع من التفكير في حد ذاته هو شكل من أشكال التأمل، فنحن أولاً نحتاج إلى تنمية الإدراك لمعاناتنا، وبعد ذلك نحتاج إلى تطوير هذا الإدراك لكل الكائنات الحية. فتأمَّلْ كيف لا تريد كل الكائنات أن تعاني من أي معاناة، ومع هذا يقعون في مأزق المعاناة، فمثل هذا النوع من التفكير يؤدي بنا إلى الشفقة (العطف). وإذا لم نُنَمِّ الرغبة في التحرر من معاناتنا فأنَّى لنا أن ننمي الرغبة لدينا في أن تتحرر الكائنات الأخرى من معاناتها؟ يمكن أن نضع حدًّا لكل معاناتنا وليس هذا بالشيء المفيد في جوهره. إننا بحاجة إلى أن نُوسِّع هذه الرغبة من أجل كل الكائنات الحية التي تتوق إلى السعادة، فيمكننا أن ندرب أنفسنا، وننمي الرغبة في أن يتخلص الجميع من المعاناة كليًّا، وهذه طريقة تفكير أكثر شمولاً وأكبر نفعًا.

لماذا علينا أن نشغل أنفسنا بالكائنات الحية الأخرى؟ لأننا نأخذ الكثير من الآخرين. على سبيل المثال: يأتي اللبن الذي نشربه من عطف البقر والجاموس، والملابس الدافئة التي تحمينا من البرد والريح تأتي من صوف الأغنام والماعز، وهلم جرًّا. وإنما نضرب هذه الأمثال لتُبيِّن لنا لماذا علينا أن نحاول إيجاد طريقة يمكن بها أن نزيل معاناتهم.

وبصرف النظر عما سنفعله؛ مثل تلاوة المانترا (نص ديني مقدس)، أو أي نوع من التأمل، فإننا دائمًا ما نكون بحاجة إلى أن نحافظ على التفكير في أنه "قد ينفع هذا كل الكائنات الضعيفة ضيقة الأفق"، وسيجلب علينا هذا النفع أيضًا بصورة طبيعية، ويمكن أن تعطينا مواقف حياتنا العادية تقدير لهذا.

فمثلاً: إذا كان هناك شخص أناني، ودائمًا ما يعمل لمصلحته الشخصية، فلن يحظى هذا الشخص بالحب من الآخرين، ومن ناحية أخرى سوف يحظى الشخص الودود – الذي دائمًا ما يفكر في مساعدة الآخرين – بحب الجميع عادة.

إن التفكير الذي يتطور في عقولنا هو: "عسى أن يكون الجميع سعيدًا، وعسى ألاَّ يعاني أحد"، وعلينا أن ندمج هذا في تفكيرنا من خلال تذكُّره مرة بعد مرة، ويمكن أن يكون هذا نافعًا إلى أبعد الحدود. فالكائنات التي طورت هذا النوع من التفكير في الماضي هم الآن آلهة بوذا عظماء، أو بوديستافات، أو قديسون. لقد بنى كل العظماء في العالم – رجالاً ونساء – أنفسهم على هذا النوع من التفكير، ويا له من شيء رائع إذا حاولنا أن نبني هذا بأنفسنا!

كارما إيذاء الآخرين لحماية أحبابنا

هل ينصح بألاَّ ندافع عن أنفسنا عندما يحاول أحد ما أن يؤذينا؟

هذا السؤال يفتح موضوعًا كبيرًا جدًّا، إذا ضربك أحد ما بعصا، أو بهراوة على رأسك، فإن الاستجابة المثلى لهذا هو أن تفكر في أن كل ذلك يحدث لك بسبب أفعالك السلبية في الماضي، وكيف أن هذا الشخص يسمَح لهذا الإرث الكارمي الخاص به أن ينضج الآن بدلاً من أن يترك لوقت آخر في المستقبل. إنك بحاجة إلى أن تشعر بالامتنان لأن هذا الدَّيْن الكارمي قد أُزِيل من مجرى عقلك.

ماذا لو هاجم أحد ما زوجتي أو طفلاً تحت حمايتي؛ هل أدافع عنهم؟ وهل سيكون عملي هذا سلبيًّا؟

طالما أن واجبك ومسئوليتك أن تحمي زوجتك وطفلك فعليك أن تحاول فِعْل هذا بطريقة بارعة قدر الإمكان. عليك أن تكون ماهرًا، وسيكون من الأفضل أن تحميهم دون أن تؤذي من يهاجمك. وبمعنى آخر: فإنك بحاجة إلى أن تجد طريقة لحمايتهم لا تسبب للآخرين أي أذى.

أيمكن لأحد أن يؤذي أطفالي، ولا أستطيع أن أؤذيه؟ أليس من واجبنا أن ندافع عن أطفالنا ضد التصرفات الوحشية الهمجية؟ أينبغي أن نضحي بحياتنا؟

لكي نتعامل مع هذا الموقف بمهارة يلزمنا قدر كبير من الشجاعة. هناك رواية عن حياة سابقة لبوذا، كان فيها مَلاَّحًا، ذهب إلى البحر مع مجموعة من خمس مئة شخص بحثًا عن كنز مدفون، وكان من بينهم رجل ذو طمع شديد، ولكي يسرق كل الجواهر لنفسه خطط لقتل الخمس مئة فرد، وكان البوديستافا (شاكياموني بوذا في حياة ماضية) مُدركًا لهذا، واعتقد أنه من الخطأ أن يترك الموقف يتطور؛ حيث سيقتل رجل واحد خمس مئة، ولهذا أقدم على فعل شجاع جدًّا لإنقاذ هؤلاء؛ فقَتَلَ هذا الرجل، وتقبل طواعيةً أن يتحمل تبعات القتل كاملة.

إذا أردت أن تتقبل ولادة جديدة في الجحيم لإنقاذ الآخرين فلديك فكر ذو قدر كبير من الشجاعة، وعندئذ يمكنك أن تنهمك في هذه الأفعال، كما فعل بوذا تماما.

تحت هذه الظروف هل ما زال القتل يعتبر عملاً سلبيًّا؟

كتب (ناغارجونا) في خطاب إلى صديقه أنه إذا اقترف أحد ما أفعالاً سلبية باسم حماية والديه، أو أطفاله، أو البوذية، أو الجواهر الثلاثة للملاذ، فسيجب عليه أن يتحمل العواقب. والاختلاف بينك وبين غيرك في كونك مدركًا لعواقب هذا الأمر، وتريد أن تلقي بتبعاتهم على نفسك لكي تحمي – بدافع الإيثار – زوجتك وطفلك أم لا. فأنت إذا آذيتَ عدوًّا فستمر بمعاناة الميلاد الجديد، ومع هذا فعليك أن تواجه هذا طواعيةً بالتفكير في كونك تحملت هذا العناء وحدك، وبالتالي لن تعاني زوجتك وطفلك.

إذن طبقًا للبوذية لا يزال هذا عملاً سلبيًّا؟

حماية زوجتك وطفلك هو تصرف ايجابي بنَّاء، ولكن إيذاؤك للعدو تصرف سلبي هدَّام، وعليك أن تقبل طواعية العواقب لكليهما.

Top