نصيحة للتأمل في تدرُّب اللام-ريم

من الجليّ أن التأمل موضوعًاهامًا إذا أردنا التدرُب على تعاليم بوذا. لكن التأمل لا يُعتبر شيئاَ خاصاً بالبوذية وحسب إذ نجده في جميع التقاليد الهندية كما في عدة أنظمة غير بوذية خارج الهند. إن مرادف كلمة التأمل بالسنسكريتية هو "بافانا" وهي كلمة مشتقة من الفعل "بو" الذي يعني "أن نصبح" أو "أن نجعل شيئاً يصبح شيئاً آخر". "بافانا" إذاً هي عملية نتلقى من خلالها تعاليم حول كيفية تطوير حالة ذهنية بناءة،وبشكل أكثر إيضاحًا "أن نصبح" تلك الحالة . بمعنى آخر، من خلال عملية التأمل، نسعى إلى أن تصبحأذهاننافي حالة مُحددة مفيدة.

بما أن كلمة "بافانا" مشتقة من الأصلالسنسكريتي لكلمة "بو"، أي من فعل "أصبح" فهي تعني تحولاً معيناً مثلاً، إذا كنا نتأمل في الحب، فنحن في الواقع نحوِل أنفسنا إلى أشخاص تمتلئ قلوبهم بالحب. عندما تُرجِم هذا المصطلح من السنسكريتية إلى التبتية، تمت ترجمته بكلمة بمعنى "بناء عادة ما". هذا ما تعنيه الكلمة التبتية "غوم". "غوم" تعني أن نُعوّد أنفسنا على شيء إيجابي – وليس على شيء سلبي أو متعادل – وبالتالي على بناء عادة إيجابية وبناءة.

إذًا فإن الكلمة التبتية تتشابه بعض الشيء، مع معنى أو مضمون، الكلمة السنسكريتية. وما يعنيه هذان المصطلحان أنه من أجل تحويل أنفسنا لنصبح مثل هدفنا – أن نصبح شخصاً يمتلئ قلبه بالحب، على سبيل المثال – نحتاج إلى أن نعمل على تنمية الحب كعادة مفيدة. والطريقة التي نستخدمها لبناءتلك العادة المفيدة هي التأمل.

الاستماع إلى التعاليم

عُرفت النصوص الهندية الفلسفية التي وُجدت قبل عهد بوذا بالأوبانيشاد. وتضمنت هذه النصوص عدة إشارات إلى التأمل. في الأوبانيشاد، تمَ التطرق إلى التأمل في سياق عملية "الثلاث خطوات”: الاستماع، التدبر والتأمل. فبوذا لم يخترع عملية "الثلاث خطوات" وإنما كانت شائعة في عصره. إذاً، إن أردنا أن نُحول شيئاً ما إلى عادة إيجابية، من الواضح أننا نحتاج أولاً إلى الاستماع إلى التعاليم ثم إلى فهمهاعن طريق التمعن في التفكير بها وأخيراً نحن نحتاج إلى دمجهاداخل أنفسنا .

في حال لم نكن نعرف شيئاً عن الدارما، فنحن نحتاج أولاً إلى اكتساب معلومات أساسية حول البوذية كما نحتاج إلى التأكد من صحة هذه المعلومات. فقط المعلومات الأساسية الصحيحة هي التي يُمكن أن تُشكِل قاعدة يُعتمد عليها للاهتمام بتعاليم الدارما الأصلية. وفي عهد شاكياموني بوذا، لم تكن التعاليم الفلسفية تُكتَب قط وإنما تم البدء في تدوينهافي نصوص خطية بعد هذا بعدة قرون. لهذا السبب، تبدأ عملية "الثلاث خطوات" بضرورة الاستماع إلى التعاليم – بعبارة أخرى التعاليم التي كان يتم إلقاؤها شفهياً.

اليوم، يمكنكم أن تُدرِجوا ضمن المرحلة الأولى قراءة الكتب أو المواقع الإلكترونية للاطلاع على أنواع محددة من التدريبات أو الحالات الذهنية التي قد ترغبون في تطويرها.لكن هذه النقطة قابلة للجدل لأننا عندما نستمع إلى التعاليم التي يلقيها معلم، هناك في الواقع أجواء خاصةتنشأعندما يكونالُمعلممتواجدًا أمامنا. عندما نستمع إلى التعاليم مباشرةً، قد يُشكِلالمُعلم بالنسبة لنا مصدراً للإلهام قد لا يتوافر عند قراءة كتاب حتى ولو أنه من الواضح أن هناك شخصاً ما كتب الكتاب الذي نقرأه. هذا صحيح أيضاً في حياتنا اليومية. مثلاً، عندما نذهب لحضور حفل موسيقي، تكون هذه التجربة أكثر قوة وإلهاماً من مجرد الاستماع إلى الموسيقى المسجلة على قرص مضغوط في المنزل. إنها تجربة مختلفة تماماً.

عندما نستمع إلى التعاليم، واحدة من أهم الإرشادات إفادة هيالتخلص من"الأخطاء الثلاثة التي تشبه إناء الطين."

  • أولاً، نحتاج إلى تجنب الوقوع في خطأ أن نكون كالإناء المقلوب رأساً على عقب والذي لا يمكن وضع أي شيء في داخله. بعبارة أخرى ، إذا كانت عقولنا منغلقة، فبالتأكيد لن نتمكن من تعلُم أي شيء مما نستمع إليه.

  • ثم علينا تجنب الوقوع في خطأ أن نكون كإناء مثقوب في أسفله. في هذه الحال، كل ما يتم وضعه داخل الإناء، يخرج عبر هذا الثُقب.يمكن ترجمة هذا إلى مصطلح "أن ما نستمع إليه يدخل من أذن ويخرج من الأُذن الأخرى". لا بد أن نتجنب هذا .

  • أخيراً، علينا تجنب الوقوع في خطأ أن نكونكالإناء المُتسِخ . عندما نسكب الماء النظيف في إناء مُتسِخ، يصبح الماء مُتسِخًاكذلك . بعبارة أخرى، عندما يكون لدينا العديد من المفاهيمالمُسبقةتُفسِدعلينا استيعابنا للمواد الجديدة. فبدلًا من أن نكتفي بالاستماع إلى ما يقوله الشخص، نقوم دائماً بمزج المواد الجديدة بإسقاطاتنا الخاصة.

لتجنُب الوقوع في هذه الأخطاء، فور استماعنا إلى تعاليم معينة، من المفيد جدا أن نقوم بتدوينها أو تسجيلها بطريقة ما، لمساعدتنا على أن نتذكر بطريقة صحيحة النقاط التي تم ذِكرها. هذا مفيد جداً في حال لم نكن نتمتع – كما هي حال أغلبية الأشخاص – بذاكرة قوية. كلما أطلنا الانتظار قبل تدوين ما استمعنا إليه، كلما كانتالمفاهيمالمُسبقةأكثر قدرة على إفساد ذاكرتنا. حتى عندما نكون قد دونا أو سجلنا التعاليم التي استمعنا إليها، نحتاج إلى الاستماع إليها مجدداً ومراراً وتكرارًا. فإن مجرد الاحتفاظ بهذه التعاليم مدونة في دفتر موضوع على الرف أو في ملف مُسجل على الحاسب الآلي أو في "الآيبود"، أمر غير كافٍ.

قال مُعلمالساكيا سونام-تسيمو إنه للدخول في التدرُب على الدارما:

  • علينا أولاً الاعتراف بأننا لدينا مشاكل وأننا نعاني؛

  • وعندها سنحتاج لأن يكون لدينا الرغبة لأن نخرج من معانتنا؛

  • أخيراً، علينا الاهتمام بالدارما باعتبارها الوسيلة للتخلص من المعاناة.

عندما نكون مُستجدين، من الضروري أن نتمتع بعقول منفتحة وأن نحاول أن نحتفظ بما نتعلمه. لكن ما يفوق ذلك أهمية هو أننا نحتاج لأن نستمع إلى تعاليم الدارما باهتمام وبهدف تقييم ما نستمع إليه. نحن نريد أن نُقَيِم ما نستمع إليه لنُقررما إذا كانت تلك التعاليم من شأنها أن تساعدنا شخصياً في التغلب على مشاكلنا في حال قمنا بالتدرُب عليها فعلياً. نحن لا ننخرطفي التعاليم البوذية للنجاح في امتحان دراسي أو لنيل إعجاب الآخرين بسعة الإطلاع التي قد نكتسبها. نحن نستمع إلى التعاليم لنرى ما إذا كنا سنجد فيها ما قد يلائمنا شخصياً ويساعدنا في حياتنا.

عند الاستماع إلى التعاليم، هناك عدة طرق ننظر بها لأنفسنا والموقف. في الأداة المعروفة بـِ "الاعتبارات الثلاثة"، نعتبر أنفسنا كشخص مريض والمُعلم كالطبيب والتعاليم كالدواء الذي سيساعدنا على الشفاء من عدة أمراض أو مشاكل – باعتبار أن الأمراض هي مشاعرنا المُربكة.

كلما أصبحنا أكثر تقدما في التدرُب، كلما تلقينا تعليمات إضافية حول المواقف الداخلية التي نحتاجها تجاه المُعلم فيما يتعلق برؤيته على أنه بوذا إلخ. لكن هذه التعليمات ليست خاصة بالمبتدئين.

التدبر فيما سمعناه

الخطوة الثانية هي التدبر فيما سمعناه . نحن نتدبر بالتعاليم كي نفهمها. نحن نصل إلى نقطة النهاية في عملية التدبر عندما نفهم بشكل صحيح معنى التعاليم.نحن لا نحتاج أن نصل إلى الفهم الصحيح للتعاليم فقطمن أجل التدرُب عليها بشكل صحيح، بل أيضًا نحتاج ذلك من أجل أن نُصبح مقتنعين بأن هذه التعاليم صحيحة وأنها شيء نحتاج إلى تبنيه داخل أنفسنا لتساعدنا على تجاوز مشاكل بعينها. كما أننا نحتاج إلى أن نكون مقتنعينبقدرتنا على أن نُحقق في الواقع ما تناقشه هذه التعاليم. إذا فكرنا أن هذا مستحيل – وأنه لن يكون أبداً باستطاعتنا مثلًا تجاوز غضبنا – فما الفائدة إذاً من اتباع التدريبات التي تهدف إلى التغلب على غضبنا؟ نحن بحاجة لأن نقتنع بأن التدرُبسيعطي ثماره وسيخولنا بلوغ الهدف المنشود .

عندما نفكر بأحد التعاليم، نفكر به من عدة نواحي. مثلاً، إذا كنا نتحدث عن التأمل من أجل تنمية الحب تجاه الجميع بشكل متساوٍ، نحتاج إلى الاطلاع على مختلف الخطوات التي يجدر بنا القيام بها لتنمية هذا النوع من الحب. على سبيل المثال، ما الذي يعتمد عليه الحب المتساوي تجاه الجميع ؟ إنه يعتمد على النظر إلى الجميع على قدم المساواة وأن الجميع يعاملنا بطيبة إلخ. لذا، فمن أجل تنمية هذا الحب الشامل في أذهاننا، علينا أن نعرف ما الذي يرتكز عليه هذا الحب وما هي الرؤى والحالات الذهنية التي يجدر بنا تطويرها مُسبقًا حتى ينمو ذلك الحب في داخلنا.

بالإضافة إلى ذلك، نحتاج لأن نعرف ما هي العوامل المُعادية للحب والتي سيساهم الحب في معالجتها تحديدًا. نحتاج أن نكون مقتنعين بأن العوامل المُعادية هي الغضب والكراهية وبأن الحب يستطيع بالفعل أن يتغلّب على تلك العوامل وأن يُخلّصنا منها. كما نحتاج أن نفهم كيف يمكن للحب أن يتخلص منها.

علاوة على ذلك، علينا أن نفهم ما هي الغاية من تنمية الحب وما الذي سوف نفعله بهذا الحب بمجرد تنميتنا له ، وهذا يتضمن معرفتنا بمنافع تنمية هذا الحب . مثلاً، إذا نظرنا إلى العديد من النصوص التي تزودنا بالتعليمات الخاصة بتنمية هدف البوديتشيتا – الهدف من تحقيق استنارتنا الفردية لنفع جميع الكائنات المحدودة – عادة ما تبدأ بوصف منافع أن يكون لدينا هدف البوديتشيتا. والهدف من بدء تلك النصوص بهذه الطريقة يكمُن في جعلنا نقتنع بأن حصولنا على هدف كهذا في الحياة هو أمر قد نرغب في تنميته.

أخيراً، لا بد لنا أن نقتنع بمنطق هذه التعاليم. يجب أن تكون التعاليم منطقية، وذات مغذى، ويمكن فهمها في سياق مراحل وتفاصيل التعاليم الحقيقية الأخرى.

إذاً، هناك العديد من الأمور التي يجدر بنا التفكير بها. فالقفز مباشرة إلى التدرُب على التأمل دون فهم لما نحتاج إلى تنميته أولاً أو كيف ستساعدنا في التغلب على أي من تلك الحالات الذهنية المُثيرة للمشاكل، وما هي العوامل المُعادية التي لا بد لنا أن نحترس لها، وهكذا ... لهو تصرف غير حكيم. التشبيه لهذا الأمر مثل: "إن الاستماع يشبه وضع الطعام في الفم والتدبر يشبه مضغ الطعام." فإذا حاولنا ابتلاع الطعام قبل مضغه، سنختنق. كذلك، إذا حاولنا التأمل من دون التدبر بالتعاليم، سنواجه عقبات.

كيف بالضبط نُتِم عملية التدبر؟ مرحلة التدبريُمكن أن تكون بإتباع طريقة الأسلوب الحر في التفكير بمختلف النقاط التي ذكرتها سابقًا، أو بعد القيام بهذا، يمكن استخدام آلية أكثر منهجية.

الطريقة المنهجية في التدبر

الطريقة المنهجية في التدبر تعني أن نتبع متتالية منطقية. عندما نريد أن نطور حالة ذهنية بعينها، نحتاج لأن نقوم بتكوينها. نحتاج لأن نبني هذه الحالة الذهنية عبر مراحل أو خطوات، وعادة ما تتضمن هذه الخطوات إتباع متتالية منطقية. على سبيل المثال، قد تحتوي التعاليم على متتالية منطقية تُكوّن فهمًا لعدم الدوام (أن الأشياء تتأثر بتغيُر الأسباب والشروط من لحظة للحظة حتى تصل لنهايتها)؛ أو يُمكن أن تتضمن المتتالية المنطقية التي تُكوّن فهمًا للخلو (أن كل شيء خالي من الوجود بالطرق المستحيلة). بالتدبر واستخدام منطق المتتالية المنطقية، نصبح، ليس فقط، مقتنعين بأن عدم الدوام أو الخلو صحيحين منطقيًا، بل أيضًا أن المتتالية المنطقية تُثبت بشكل صحيح منطقيًا أن عدم الدوام والخلو هم واقع فعلي. وليس ذلك فقط، ولكننا أيضًا نصبح مقتنعين أنه من خلال إتباع منطق المتتالية المنطقية، يمكن أن نُوَّلِد فِهمًا حاسمًا لعدم الدوام والخلو. تذكر: أن نصبح مقتنعين هو جزء من عملية التدبر.

على نحو بديل، يمكننا تكوين حالة ذهنية معينة، ليس بالضرورة عبر متتالية منطقية، وإنما من خلال مراحل. مثلا، إذا أردنا تنمية هدف البوديتشيتا، نقوم بذلك من خلال مراحل كتطوير التوازن ثم رؤية الجميع على أنهم كانوا أمهاتنا في حياة سابقة ونتذكُر طيبة الحب الأمومي ونُنمي الامتنان لهذا،إلخ. نحن نفكر متتبعين تلكالمراحل من أجل أن نصبح مقتنعين بأنه عبر القيام بهذه الخطوات، سنتوصل إلى تنمية هدف البوديتشيتا. وهذا لا يزال جزءاً من عملية التدبر.

كذلك، نحتاج إلى أن نفهم جيدًا، أن خلال عملية التفكير هذه، ما هي الحالة الذهنية التي نحاول حقًا غرسها. بعض أنواع التأمل هدفهامساعدتنا على التركيز على شيء محدد، على سبيل المثال، بوذا المُتخَيَلْ. للتأملعلى بوذا المُتخَيَلْ، علينا أن نفهم أنه هذا هو نوع التأمل القائم على التركيز وأنه يهدف إلى التركيز على شيء محدد، في هذه الحال هيئة صغيرة ثلاثية الأبعاد لبوذا وهو حي ومصنوع من نور نتصور أنه موجود أمامنا في مستوى العينين.

من ناحية أخرى، هناك أنواع تأمل مختلفة تهدف إلى تطوير حالات ذهنيةبعينها مثلاً الحب. الحب ليس شيئاً نُركز عليه وإنما هو عبارة عن حالة ذهنية، نوع من المواقف الذهنية التي نعمل على تطويره. لذا، لا بد لنا أن نعرف أي نوع من التأمل نريد أن نستخدمه: هل نحاول التركيز على شيء مُحدد أو أننا نحاول تنمية حالة ذهنية معينة؟ ما هو الشيء الذي نحاول تحقيقه؟

في كلا الحالتين، أكد تسونغابا بشدة أننا بحاجة لمعرفة شيئين:

  • أولاً، نحتاج أن نكون واضحين بشأن الشيء الذي يحتاج أن يظهر في أذهاننا. سواء كنا نتحدث عن التأمل علىبوذا المُتخيَلْ أو التأمل على الحب، ما هو الشيء الذي يظهر في تأملنا؟

  • ثانياً، علينا أن نعرف كيف سيتناولالذهن هذا الشيء وكيف سيدركه.

إذا لم نكن واضحين تماما بالنسبة لهاتين النقطتين، كيف لنا أن نوَّلِد الحالة الذهنية التي نرغب بها؟

مثلاً، الشفقة: إلى ماذا تهدف الشفقة؟ ما هو الشيء الذي يظهر أمامنا؟ إن ما يظهر في أذهاننا عند التأمل علىالشفقة هو الكائنات الواعية، كائنات محدودة متنوعة لديها معاناة. إن أذهانناتُركِز عليهم وتمييز جانب محدد بهم، تحديدًا معاناتهم وأسباب معاناتهم. بأي طريقةسيتناولالذهن تلك الكائنات؟ يتناولها الذهن بالأمنية القوية لها بأن تنفصل عن معاناتها وأسباب معاناتها، والنية بمحاولة تحقيق ذلك بأنفسنا.بهذه الطريقة، من خلال التفكير بالتعليمات التي سمعناها أو قرأناها، نكون قادرين على تحديد وفهم الحالة الذهنية التي نريد توليدها بشكل واضح جدًا.

إذا كنا سنتأمل على البوديتشيتا، علينا أن نفكر وبوضوح شديد في ما الذي ستقوم به أذهاننا أثناء هذا التأمل. معظم الأشخاص يخلطون بين البوديتشيتا والشفقة. غير أن البوديتشيتا والشفقة ليسا متشابهين. البوديتشيتا هي حالة ذهنية تعتمد على الشفقة كأساس لها. لكن البوديتشيتا تتجاوز مجرد الأمنية للآخرين بالتحرر من معاناتهم ومن أسباب معاناتهم. إنها تتجاوز مجرد الأمنية بأن تصل جميع الكائنات المحدودة إلى الاستنارة وتحمل مسؤولية ذلك. لكن كل هذه الأمنيات والأحاسيس الطيبةتُشكِلالمشاعر الإيجابية التي تعتمد عليها البوديتشيتا وتنمو من خلالها. نحن نحتاج أولًا أن نمتلك هذا الأساس من الحب والشفقة.

على ماذا نُركزفعليًا عندما نكون جالسين على وسائدناونتأملعلى البوديتشيتا؟ نحن نُركز على الاستنارةالفردية الخاصة بنا والتي لم تحدث بعد ولكن التي يُمكن أن تحدث استنادًا على عوامل طبيعة – بوذا لدينا ، وعلى أساس العمل الدؤوب الذي نحتاج للقيام به لتحقيق الاستنارة. عوامل طبيعة – بوذا لدينا هي الخصال والسمات الأساسية التي نمتلكها جميعا، والتي ستُمكِّنا أن نُصبح بوذا، مثل طبيعة أذهاننا النقية. نحن لا نُركز على استنارة شاكياموني بوذا ولا على المفهوم المجرد للاستنارة بشكل عام وإنما على استنارتنا الفردية ، استنارتنا غير المُحققة بعد.

كيف نقوم بالتركيز على استنارتنا غير المُحققة بعد ؟هذا ليس بالأمر السهول. أولاً، علينا أن نفهم ما الذي يعنيه ذلك، ما هي طبيعة هذه الظاهرة – أي الظاهرة أو الأمر غير المُحقق بعد. على سبيل المثال، علينا أن نفكر: هل هذا البرعم غير المُتفتّح بعد موجود داخل البذرة وفقط جاهز لينبثق؟ أم أن هذا البرعم غير المُتفتّح بعد غير موجود نهائياً في وقت زراعته؟

من الواضح، أن فهم الخلو ضروري هنا للتوصل إلى إدراك واضح لما نُركز عليه عند التركيز على استنارتنا غير المُحققة بعد . إن استنارتنا غير المُحققة بعد ليست مثل الجلوس في مكان ما، مثل خط نهاية السباق المتوجهين إليه. كما أنه لا يرقد في أذهاننا أو في طبيعة – بوذا لدينا، بانتظار أن ينبثق. إنه ليس شيئاً قابل للإيجاد بهذه الطريقة. من ناحية أخرى، نحن لا نُركز على شيء غير موجود على الإطلاق. نحن لا نركز على لاشيء. بالأحرى، نحن نحتاج أن نفهم أن استنارتنا غير المُحققة بعد هي شيء يصِّحنسبهلاستمراريتنا الذهنية على أساس عوامل طبيعة – بوذا لدينا . كما علينا أن نفهم معنى أن يكون شيء ما يصِّح نسبه على أساس ملائم.

من أجل التركيز على استنارتنا غير المُحققة بعد، لا بدّ أن نركز عليها من خلال نوع من التصور الذهني للاستنارةالذي يظهر في أذهاننا . مثلاً، يمكننا أن نتصور صوت لفظة "استنارة" أو أن نتخيل بوذا أمامنا. في التانترا، يمكننا أن نتخيل أنفسنا على شكل احد هيئات بوذا . في كل مثال من تلك الأمثلة، علينا أن نعتبر هذا الصوت الذهني أو هذه الصورة الذهنية التي تظهر في أذهاننا وكأنها تَصوُرلاستنارتنا غير المُحققة بعد .

بعد ذلك ، كيف تركز أذهاننا على هذا الهيئة الذهنية التي تظهر أمامنا؟ نحن نركز على استنارتنا غير المُحققة بعد، كما تمتصويرهابواسطة هذه الهيئة الذهنية التي تظهر بأذهاننا، مع اثنين من النوايا. الأولى: "سوف أقوم بتحقيق الاستنارة". كي يكون لديك هذه النية بتحقيق الاستنارة فهذا يعتمد على عدة أشياء أخرى نحتاج لأن نكون قد فكرنا بها واستوعبناها. علينا أن ندرك بشكل واقعي ما نحتاج القيام به لتحقيق الاستنارة. موقفنا الداخلي لا يمكن أن يكون فقط وبشكل عرَضي: "آه، أنا سأقوم بتحقيق ذلك." علينا أن نعرف كيف سنقوم بتحقيق ذلك وأن نكون مقتنعين بأننا نستطيع تحقيقه. علينا أن نتمتع بنية صحيحة لتحقيق حالة الاستنارة وإلا كان تحقيق ذلك مجرد حلم جميل. وبالطبع، علينا أن نفهم بطريقة صحيحة ما هي الاستنارة وهذا أمر ليس من السهل فهمه. فنحن نكتسب كل هذا الإدراك من خلال الخطوة الثانية من العملية وهي التدبر.

النية الثانية التي علينا أن نتمتع بها عند التركيز على هذا التصور الذهني أنه بهذه الاستنارة سنقوم بنفع الآخرين بأكبر قدر ممكن.بعد كل شيء، إن الاستنارة لا تعني أن نصبح آلهةقادرة على كل شيء. إن القدرةعلىمنفعة الجميع ترتكز بالطبع على القيام بالخطوات المذكورة سابقاً لوضع الأسس التي تعتمد عليها البوديتشيتا، تحديدًا الحب والشفقة. نحن نتحمل مسؤولية إيصال الآخرين إلى الاستنارة لأننا نتمنى لهم التحرر من جميع المعاناة وأن ينعموا بشكل تام بالسعادة.

إن هذه الخطوة الخاصة بالتفكير هي في الواقع خطوة طويلة بعض الشيء وتتطلب قدراً كبيراً من العمل. ولكن في نهاية تلك الخطوة، ندرك ونعرف بشكل محدد وبثقة عالية ماهية الحالة الذهنية التي نحاول تحقيقها وكيفية تطويرها تدريجيًا. كما أننا سنكون مقتنعين بشكل تام بأننا نستطيع توليد هذه الحالة الذهنية وهذا التوليد سيكون ذي نفع كبير لنا.

على الرغم من أن هذه المرحلة الخاصة التدبر تبدو وكأنها عملية تأمل، إلا أنها ليست كذلك قياساً بالتعريف التقليدي للتأمل. الغربيون الذين لا يستخدمون المصطلحات بشكل دقيق قد يطلقون على عملية التدبر تلك "التأمل"،وهذه ليست تسمية صحيحة. علينا أن نكون واضحين تمامًا بالنسبة للفروق بين التدبر والتأمل.

إن عملية التدبر التي نتحدث عنها هي نشاط جدير بالاهتمام كما أن التفكير بالتعاليم هو شيء يمكننا القيام به في أي وقت. في الواقع، إنه أمر من المفيد جداً القيام به خلال ممارستنا لنشاطات أخرى في حياتنا اليومية. مثلاً، عندما نكون عالقين في زحام على الطريق، يمكننا أن نفكر كيف يمكن لحالة ذهنية معينة، مثلاً الحب، أن تُطبَق على وضع كهذا. كيف يمكن للحب أن يكون ذي صلة لهذا الوضع ؟ ما قد تكون منافعه ؟ إلخ. إنها نقاط يمكننا التفكير بها خلال يومنا.

التأمل

ها نحن نصل إلى المرحلة الثالثة من عملية "الثلاث خطوات": التأمل بحد ذاته. التأمل يشبه هضم الطعام بعد مضغه. الهدف من التأمل هو جعل حالة ذهنية إيجابية معينة عادة، هو أن نصبح بالفعل هذه الحالة الذهنية، وذلكبمجرد تفكيرنا بها، وفهمنا لها، واقتناعنا بقدرتنا على توليدها.

التأمل بالدرجة الأولى هو عملية ذات شقين. يتضمن الشق الأول ما أترجمه بـِ "التأمل عميق الفهم"وهو معروف عامة بـِ "التأمل التحليلي" رغم أن إطلاق صفة "تحليلي" عليه قد يؤدي إلى الخلط بين هذه المرحلة ومرحلة التدبر. أعتقد أن كلمة "الفهم العميق" هي الترجمة الأكثر دقة لهذا المصطلح. في هذا السياق، أن "تفهم بعمق" يعني تفحُّص الشيء بعناية كبيرة وفهمه بطريقة معينة. الناحية الثانية للتأمل هي التأمل التثبيتي الذي نُثبِت فيه حالة ذهنية معينة ونبقى مُرَكزين عليها. يمكننا أن نُسمي هذه المرحلة الثانية بـ"التأمل الترسيخي".

كيف يمكننا تحقيق الشق الأول أي التأمل عميق الفهم؟ خلال عملية التفكير، اتباعنالمتتالية منطقية معينة أو بالأحرى المراحل والخطوات اللازمة لبناء حالة ذهنية محددة. لقد قمنا بذلك بهدف أن نفهم ما هي هذه الحالة الذهنية التي نرغب في تنميتها وكيف يمكننا القيام بذلك. الآن، مع التأمل عميق الفهم، سنتبع مرة أخرى الخط المنطقي نفسه أو الخطوات التي تقودنا إلى توليد تلك الحالة الذهنية المعينة. لكننا الآن نقوم بهذه العملية بهدف توليد هذه الحالة الذهنية بداخلنا بشكل جديد. مثلاً، من أجل توليد الشفقة تجاه الجميع، نتبع الخط المنطقي التالي: "الجميع كان بمثابة أم لي، الجميع كان طيبًا معي ..." وهكذا نعمل على ترقية أنفسنا للتوصل إلى هذه الحالة الذهنية والإحساس بها بشكل فعلي.

ما أن نتوصل إلى تطوير أنفسنا خطوة تلو الخطوة في إطار هذه العملية لنبلغ الحالة الذهنية التي نسعى إلى تعويد أنفسنا عليها، بعدها بفعالية نفهم بعمق ونستوعب الهدف من التركيز بهذه الطريقة. إذا كنا نتأمل علىالشفقة مثلا، نركز على جميع الكائنات المحدودة وبشكل خاص على التفاصيل المميزة لهم: مشاكلها ومعاناتها. نفهم بعمق أنهم يعانون، ولدينا الأمنية بأن يتحرروا من تلك المعاناة، والنية لمساعدتهم لتحرير أنفسهم منها. نحن في الواقع نرى الكائنات الواعية وننظر إليها في أذهاننابهذه الطريقة؛ أو يمكن عندما نراهم في الحياة بالفعل. الشفقةتُركز على الآخرين وعلى معاناتهم، وعلى الأمنية لهم بالتحرر منها.

نبقى ضمن هذا الفهم العميق لفترة معينة، في إطار عملية ناشطة. فيما بعد، يصبح التأمل الترسيخي بالأساس ترك ما فهمناه عميقًا ليتشربه ذهننا.، مع التركيز الكامل على هذا الموضوع أو هذه الحالة الذهنية. كذلك، بشكل واضح نحن نحتاج إلى التركيز عند القيام بمرحلة التأمل عميق الفهم. ولكن ضمن مرحلة الترسيخ، نترك المشاعر لنتشربها عميقًا داخل قلوبنا: نحن نشعر بالشفقة بقوة.

نتنقّل بين هاتين المرحلتين، الفهم العميق والترسيخ ، بالتناوب، ذهاباً وإياباً، وفي النهاية سنستطيع قد نكون قادرين على دمجهما ببعضهما البعض. إن دمج مرحلتي التأمل عميق الفهم والترسيخي ببعضهما البعض صعب جداً. كما إن مناقشة المراحل التي قد نمر بها من أجل التوصل إلى دمجهما ببعضهما البعض معقدة جداً. إذا كنتم ترغبون في الحصول على بعض التفاصيل حول الموضوع، يمكنكم قراءة المزيد على موقعي الإلكتروني.

أيضًا، عندما نُصبح في مستوى مُتقدم للغاية، لن نكون في حاجة للقيام بما يسمى "التأمل التدبري"، التأمل التدبري هو التأمل الذي به تتم عمليه التأمل عميق الفهم خلال مراحل والتي بناء عليها نصل لحالة ذهنية معينة. في المستوى المتقدم، سيكون باستطاعتنا القيام بتأمل عميق الفهم غير تدبري.سنكون قادرين على توليد الحالة الذهنية المرغوب فيها على الفور، دون الاحتياج لبنائها من خلال الخطوات أو اتباع متتالية منطقية. على الرغم من ذلك فنحن نستخدم تلك الحالة الذهنية من أجل الفهم العميق للشيء محل التركيز، كما فعلنا في التأمل عميق الفهم عندما كان تدبري.

أنواع التأمل

غالباً ما نسمع بنوعين من التأمل معروفين بالسنسكريتية بـِ "شاماتا" و"وفيباشيانا " أو بالتبتية بـِ "شيناي" و"لاغتونغ". وتدل هاتان الكلمتان إلى حالتين ذهنيتين نسعى إلى بلوغهما من خلال عملية التأمل. شاماتا هي حالة الهدوء وثبات الذهن. إنها حالة ثابتةبمعنى أننا نتوصل من خلالها إلى تهدئة جميع مستويات البلادةالذهنية وتقلب الذهن أو الاهتياجالذهني(ذهن يُحلق لأشياء أخرى جذابة). الشاماتا هادئة بمعنى أن تركيزها ثابت بحزم على الشيء محل التركيز.ثم يتم التشديد على التأمل الترسيخي.

يمكننا تنمية هذه الحالة الذهنيةمن الهدوء والثبات من خلال التركيز على العديد من الأشياء المختلفة بما في ذلك التنفس، بوذا المُتخَيَلْ، وخلافه. هناك قائمة طويلة من الإمكانيات.

حتى مع تأمل الشاماتا، نحتاج إلى الاستماع إلى التعليمات أولاً ثم التفكير في مراحل التأمل. مثلاً، إذا كنا نتخيل بوذا ، لا بد أن نستمع إلى تعليمات حول كيفية بناء هذا التخيل خطوة تلو الخطوة. ثم ننتقل إلى التفكير بما علينا القيام به أولاً وثانياً إلخ.

"وفيباشيانا" تعني حالة ذهنية استثنائية البصيرة.إنها حالة ذهنية قادرة على إدراك الأمور بطريقة استثنائية جداً. لذا، إن تأمل الفيباسانا يشدد على التأمل عميق الفهم . عندما نتحدث عن بلوغ حالة الفيباسانا، نعني أنه يمكن بلوغ هذه الحالة باعتبارها حالة ذهنية استثنائية البصيرة التي تفهم بعمق عدم الدوام أو الخلو، ولكنها ليست قاصرة على أحد هاتين الحالتين فقط. ففي الأنوتتارايوغا تانترا وهي أعلى مستويات التانترا، تكمُن إحدى الطرق لتنمية الفيباسانا ، هذه الحالة الذهنيةاستثنائية البصيرة ، في تخيُل نقطة أو قطرة صغيرة جداً على طرف الأنف. ثم، بينما نُبقي على هذا التخيل، نتصور نقطتين في الصف الثاني ثم أربع فثماني فستة عشر فاثنتين وثلاثين نقطة إلخ. عليكم تخيل جميع النقاط بالترتيب ثم يتحلل هذا التخيل على مراحل. من خلال القيام بهذا النوع من التخيل، تتوصلون إلى تنمية حالة ذهنية في غاية الحدة، وحالة ذهنية استثنائية البصيرة . إذا ما كنتم بالفعل تسعون إلى تنمية هذه الحالة الذهنيةلمستوى عالٍ جداً، هناك تدريبات أخرى تتخيلون من خلالها، ضمن كل نقطة، الماندالا الكاملة لنظام الكائنات السامية الذي تتدربون عليه، تتضمن كل الكائنات السامية بكل تفاصيلها. إذا استطعتم إتمام هذا التأمل، يكون لديكم حالة ذهنية استثنائية البصيرة بالفعل!

إن هذين النوعين من التأمل، شاماتا وفيباشيانا، يطَبقان في جميع التقاليد البوذية كما في عدة أنظمة هندية غير بوذية. في تقاليد الثيرافادا البوذية، ويعرفان، بالمصطلح البالي "ساماتا" و"فيباسانا". كما نجد هاذين المصطلحين في مذهب الزن. مثلاً، في بوذية سون، أي مذهب الزن الكوري، هناك ما يطلق عليه الـ "كوان" أو "ما هذا؟".لا، ولكن بدلًا من ذلك، نعمل على تنمية الذهن ليكون في حالة "شك عميق" – دائم التساؤل حول مدى واقعية "ماهية الشيء". وعندها تصبح حالتنا الذهنيةاستثنائية البصيرة.

هناك قصة مضحكة تُظهر أن غالبية المعلمين التبتيين لم يدرسوا تقاليد مذهب الزن. فهم ليسوا على اطلاع بهذا النظام. خلال اجتماع مشهور بين معلم زن وكالو رينبوشي، حمل معلم الزن برتقالة وسأل كالو رينبوشي "ما هذا؟". فنظر كالو رينبوشي إلى المترجم الذي يرافقه بتعجب وسأل "ما هي المشكلة، أليس لديهم برتقال في بلده؟".

إذاً، لديناالشاماتا والفيباشيانا. شاماتا ليست فقط التركيز التام الذي يتم تنميته عبر تسع مراحل من خلال استخدام أنواع مختلفة من الانتباه وما يشبه ذلك. لكن الشاماتا تتضمن، بالإضافة إلى التركيز الكلي، ما يُعرَف بال – "الحالة الذهنيةالمُبهجة". نستخدم المصطلح التقني" اللياقة" للتعبير عن هذه الحالة. إضافة إلى التركيز التام، هناك اللياقة التيهي حالة جسدية وذهنية مُبهجة . "اللياقة" تشبه الحالة البدنية لشخص رياضي متدرب بإتقان.

كان معلمي تسينشاب سيركونغ رينبوتشي يقول إنه عندما نتمتع بالحالة الذهنية شاماتا نشعر وكأننا نملك طائرة ضخمة. فإذا وضعنا هذه الطائرة على الأرض سوف تبقى في مكانها وإذا أطلقناها لتطير في الفضاء فسوف تطير. إنها القدرة على التركيز على أي شيء لأي فترة زمنية. فالجسم، والذهن لن يتعبا. بل أننا نشعر بلياقة تامة ، بهجة. شاماتا هي حالة ذهنيةمُبهجة، وممتعة جداً، وترفع المعنويات. ولكنها ليست حالة الفرحة الحماسية التي تجعلنا نركض في الشوارع، نغني ونرقص كما في الأفلام – هي ليست كذلك. مع الشاماتا، يكون الذهنمُشحذ كلياً، كالرياضي المتدرب بإتقان إلى أقصى حد.

من الهامتوضيحأن الحالة الذهنيةللفيباشيانا هي حالة إضافية لحالة الشاماتا. فبالإضافة إلى التركيز التام وحالة اللياقة في الشاماتا، تأتي الفيباشيانا لتضيف على هذه الحالة درجة ثانية من اللياقة. إنه قدرة الذهن الذي على درجة معينة من اللياقة تُمَكِنه من أن يفهم ويُدرك أي شيء.

هناك أيضاً نوع آخر من التأمل يُعرف عادة بـِ "تأمل الاستعراض الخاطف". عندما نتدرب على نوع معين من التأمل، نحتاج بين الحين والآخر، إلى مراجعة المسار البوذي بأكمله بهدف تذكير أنفسنا بالمكان المحدد الذي يندرج فيه موضوع تأملنا الخاص في الصورة الكاملة حتى لا نشدد على ناحية واحدة ونُهمل أو نتجاهل ناحية أخرى. لذا، التأمل الخاطف يعني مراجعة المسار بالكامل. إنه نوع من إعادة النظر.

منذ عدة أعوام مضت، أتيت إلى موسكو مع الدكتور تنزين شويدراك الذي كان الطبيب الخاص لقداسة الدالاي لاما. كنا نعمل على مشروع يقضي باستعمال الطب التبتي لمساعدة ضحايا تشيرنوبل. أقمنا خلال هذه الفترة في فنادق جميلة جداً وكان يرافقنا بشكل رسمي عدة مسؤولين من وزارة الصحة. وغالباً ما كان يتم دعوتنا إلى مآدب "الأطباق السبعة" الروسية الشهيرة. مؤخرًا أصبح الدكتور تنزين شودراك قادراً على مغادرة التبت والحضور إلى الهند بعد أن أمضى عشرين عاماً في معسكر الاعتقالالصيني. وعندما كان يتم إحضار الطبق الأول من وجبة الأطباق السبعة، ومع أننا قمنا بتحذيره عدة مرات مسبقاً، كان يأكل قدر الإمكان من الطبق الأول. كان يتصرف وكأنه الطبق الوحيد الذي سيتناوله طيلة الأسبوع التالي. فكان يشعر بالامتلاء إلى درجة لا تُمكنه أن يأكل أي شيء آخر من الأطباق الستة المتبقية. إن هذه القصة الطريفة يمكن مقارنتها بالوضع الذي نسعى إلى عدم الوقوع فيه عند تدرُبنا على التأمل الخاطف. نحن نقوم بالمراجعةونُبقي في أذهاننا قائمة الأطباق السبعة بالكامل حتى لا "نأكل حد التخمة" أو التدرُب على التأمل لفترة طويلة على موضوع واحد فقط. هذا يشبه الشبع من الطبق الأول وعدم التمكن من تناول ما تبقى من الوجبة.

لقد تحدثت عن نوع التأمل الذي نعمل من خلاله على بناء حالة ذهنية معينة غير أن هذا ليس النوع الوحيد الذي يتم التدرُب عليه في البوذية. فعلى سبيل المثال، هناك مدخل مختلف في عملية تأمل حول طبيعة الذهنبتقليدالكاغيو أو في بعض تدريبات الزن. فبدلاً من بناء الحالة الذهنية، نقوم بتهدئة الذهن لكي نكتشف أن هناك خصال طبيعية لأذهاننا كالحب أو الوضوح، ونتمكن من بلوغها. ولكن حتى عند القيام بهذا النوع من التأمل، لا بد أن نكون قد استمعنا أولاً إلى التعاليم اللازمة وأمعنا التفكير بها وتوصلنا إلى استيعابها. كما لا بد أن نعرف على ماذا ترتكز الحالة الذهنية التي نريد أن نستقر بها والهدف الذي نسعى إليه وما علينا القيام به أولا وثانياً إلخ. إن هيكلية تأمل "تهدئة الذهن"تشبه الخاصة بنوعية تأمل "البناء".

البيئة الأكثرملائمة للتأمل

هناك إرشادات مُسْتَفِيضة حول كيفية التحضير لجلسة تأمل،كيفية ترتيب الفضاء المخصص لذلك وتنظيف الأرض والحجرة وإرشادات أخرى حول السجود وتقديم الهبات وغيرها. كلها إرشادات مهمة للحصول على بيئة ملائمة للتأمل. وعلى الرغم من أهمية الحصول على ظروف ملائمة، وبيئة مناسبة للتأمل، خصيصًا مقعد ملائم، وبيئة هادئة ونظيفة، إلا أنه ليس من الضروري أن يكون لدينا موقع متقن من حولنا. لا نحتاج إلى صرف الكثير من المال للحصول على جميع التجهيزات الذهبية اللازمة والبخور وموسيقى خاصة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. بالتأكيد لم يكن ميلاريبا يملك كل ذلك وكان ناجحًا تمامًا في التدرُب على التأمل! علينا أن نحاول أن نجعل من المكان المخصص للتأمل مكاناً جميلاً قدر المستطاع من دون المبالغة في ذلك.

كذلك، نحن نحتاج أن يكون في استطاعتنا التأمل في أي مكان. إذا ذهبنا في رحلة طويلةبالقطار، لا يمكننا القول "لا أستطيع التأمل في القطار لأنني لا أحمل معي أوعية الماء ولا أستطيع إشعال البخور ولا السجود" إلخ. ولكن في الواقع، يمكننا التأمل في أي مكان، ما أن نصبح مضطلعين بعض الشيء بهذه العملية – في القطار أو في أي مكان آخر، عند الانتظار في الصف . حتى في حياتنا اليومية، يمكننا أن نتذكر، في الفترة التي تفصل بين جلسات التأمل المنهجية، معاملة الآخرين بحب وشفقة – هذا هو التأمل أليس كذلك؟

تذكروا، النقطة الأساسية في التأمل هيدمج التعاليم من أجل أن تصبح جزءاً منّا ولنتوصل إلى تطبيقها في حياتنا اليومية.ولكن إذا أصبح التأمل منفصلاً تماماً عن حياتنا اليومية، لن يكون بالنسبة لنا سوى هواية. خاصة عندما يشمل تأملنا تخيلات غريبة للتانترا، من المُمكن أن يتحول الأمر بسهولة كرحلة إلى عالم ديزني أو إلى أرض خيالية لا صلة لها بحياتنا اليومية. في حال اتبعنا هذا الطريق، نصبح غير مستقرين ذهنيًا ولن يكون للتأمل تأثيراً يُذكرفي حياتنا اليومية. تذكروا، القصد من التأمل هو تطبيقه في حياتنا.

أياً ما كان المكان الذي نتأمل فيه ، عندما نجلس للتأمل علينا أولًا تحديد الدافع، التأكيد على الدافع والنية للتأمل بتركيز.. إذا لاحظنا بأن أذهانناتشتت، علينا إرجاعها إلى حالة التركيز. إذا شعرنا بالنعاس، علينا إيقاظ أنفسنا. في النهاية، لا بد أن نقوم بإهداء القوة الإيجابية. في حال لم نقم بإهداء الطاقة الإيجابية التي توصلنا إلى توليدها من خلال التأمل، لن تؤدي الجهود التي بذلناها في التأمل إلا إلى تحسين أوضاعنا في السامسارا. لذا، علينا إهداء الطاقة الإيجابية للاستنارة، ولنفع جميع الكائنات.

التأمل الفردي مقارنةبالتأمل الجماعي

يمارس بعض الأشخاص التأمل بمفردهم. في الواقع، التبتيون غالبًا ما يمارسون التأمل الفردي. فهم لا يمارسون فعلياً التأمل الجماعي مع أن الراهبات والرهبان في الأديرة يرددون الصلوات والنصوص الطقسية مع بعضهم البعض بشكل جماعي. ولكن في الغرب، طورنا عادة التأمل الجماعي. بالنسبة لأغلبية الأشخاص، تكمُن المنفعة الأهم للتأمل الجماعي في الالتزام. فإذا كنا نتأمل بمفردنا، لا يكون لدينا الالتزام للجلوس والتأمل بل تجدنا نقف قبل الوقت الذي كنا نعتزم فيه إنهاء الجلسات بكثير. بينما إذا كنا محاطين بأشخاص آخرين، يكون لدينا إلتزام أكبر . فنكون أقل ميلًا للتململ؛ لأن القيام بذلك سيحرجنا أمام الآخرين.

البعض الآخر يجدون التأمل الجماعي فظيعاً للغاية لأن مجرد وجود الآخرين من حولهم يصرف انتباههم خاصة عندما يسعل أحدهم أو يتململ فيعتبرون ذلك مزعجاً لعملية التأمل. لذا، يُفضِلون التأمل بمفردهم في محيطهم الخاص. خاصة إذا كانت المجموعة تردد شيئًا ما بصوت عالي معًا، ، تكون ترديدات بعض الأشخاص أبطأ مما اعتدنا عليه ، فهذا يشعرنا بملل وغضب فظيع. والعكس صحيح أيضاً إذ نغضب عندما تكون الترديدات أسرع مما اعتدنا عليه.

علينا أن نحكم بأنفسنا على النوع الأفضل لنا، هل هو التأمل الفردي أم التأمل الجماعي. ولكني لاحظت ميزة مثيرة للاهتمام عند ممارسة التأمل ضمن مجموعة صغيرة أي مع شخص أو شخصين آخرين. يمكن لهذا النوع من التأمل أن يكون ناجحاً جداً عندما نكون على صلة وثيقة بالأشخاص الآخرين بحيث نشعر بانسجام تام معهم وكأن طاقاتنا تقوم بدعم بعضها البعض. فالتأمل مع هؤلاء الأشخاص يمدكم بمزيد من الطاقة ومزيد من الصفاء . ولكن عندما تصطدم طاقات الأفراد المشاركين في التأمل ضمن مجموعة صغيرة، ببعضها البعض، يحدث التأثير المعاكس لذلك أي أن التأمل يؤدي إلى الانزعاج ويجعل العقل أكثر بلادة . لذا، لا بد من التحقُق من الأشخاص الذين تعتزمون التأمل معهم في حال اخترتم التأمل مع أشخاص آخرين.

أهمية المثابرة

النصيحة الأخيرة والأكثر أهمية هي أن طبيعة السامسارا تمضي في صعود وهبوط، كذلك تأملنا، سيتأرجح بطبيعة الحال بين صعود وهبوط . فهو لن يتبع أبداً خطاً متساوياً يتحسن يوماً بعد يوم بل سنشعر في بعض الأيام أنه يسير على أفضل ما يرام في حين أنه لن يكون كذلك في أيام أخرى. في بعض الأيام سنشعر بالرغبة في التأمل وفي أيام أخرى لن نشعر بالرغبة في ذلك إطلاقًا. هذا أمر طبيعي وعادي جدا؛ إنها طبيعة السامسارا. المهم هو المثابرة والمُضيقِدماً أياً كان الشعور الذي قد ينتابنا. إن كان لديك أفكار من نوعية "لاأشعر بالرغبة في التأمل"، عليكم التأمل على الرغم من هذا الشعور. حافظوا على الاستمرارية. تأملوا يومياً حتى ولو لمدة دقيقتين أو ثلاث دقائق. إن هذه الاستمرارية مهمة جداً وهي التي ستجلب لنا الاستقرار في المسار.

كذلك، لا تجعلوا جلسات التأمل طويلة خاصة في البداية. ثلاث أو خمس دقائق كافية وإلا سوف تقولون لأنفسكم "لا يمكنني الانتظار إلى أن ينتهي التأمل،" وبعدها لن تشعروا بالرغبة في التأمل من جديد. إذا أنهيتم التأمل في الوقت الذي تشعرون فيه بالرغبة في الاستمرار، سوف تكونون سعيدين للتأمل من جديد. هذا يشبه وجودكم مع أحد الأشخاص وشعوركم عند رحيله بأنكم ترغبون في قضاء المزيد من الوقت معه، لذا سوف ترغبون في رؤيته مجدداً في وقت قريب. ولكن في حال طال بقاء هذا الشخص معكم إلى درجة جعلتكم تشعرون بالملل وتأملون رحيله، لن تكونوا سعداء برؤيته مجدداً.

أخيراً، من المهم جداً تمديد فترة التأمل تدريجياً. تمتعوا بالمرونة – المرونة مهمة جداً. كما قلت سابقاً: لا تفوتوا التأمل حتى ولو ليوم واحد فقط. إن التأمل اليومي من شأنه أن يكسبكم الاستقرار والأمانة والثقة. ولكن عليكم أن تتحلوا بالمرونة : أحياناً قد تشعرون بالقدرة على القيام بالتأمل الكامل الذي ترغبون فيه وأحياناً، عندما لا يكون لديكم الوقت الكافي، يمكنكم التأمل على النسخة الأقصر. ولكن مارسوا التأمل يومياً على الأقل. تجنبوا الحماس المفرط ولا تضغطوا على أنفسكم بشدة . هناك قول مأثور في الزن مفاده أن "قد يأتيالموت في أي وقت، فاسترخوا!" شكراً لكم.

Top