انتشار البوذية في آسيا

05:02

على الرغم من أن البوذية لم تُنَّمي أبدًا حركة تبشيرية، إلا أن التعاليم البوذية انتشرت بعيدًا عبر القرون: أولًا إلى جنوب غرب آسيا، ثُم من وسط آسيا إلى الصين وبعدها إلى باقي شرق آسيا، وأخيرًا إلى التبت، ووصلت أبعد من ذلك إلى وسط آسيا. غالبًا ما انتشرت البوذية في تلك الأقاليم بطريقة طبيعية، بسبب الاهتمام المحلي بالمعتقدات البوذية للتجار الأجانب. في بعض الأحيان كان لتبني حُكَّام تلك الشعوب دورًا في تقديم التعاليم لهم، مع ذلك لم يكن أحدًا مُجبرًا على اعتناق البوذية، بجعلهم رسالة بوذا متاحة للعامة، تمكنت تلك الشعوب من اختيار ما هو نافع لهم بحرية.

انتشرت تعاليم بوذا بشكل مسالم في أنحاء شبه القارة الآسيوية، ومنها إلى جميع أنحاء آسيا. أينما وصلت لثقافة جديدة، كان يتم تعديل الأدوات والطرق البوذية بكل حرية للتوائم مع الذهنية المحلية، دون مساومة حول النقاط الأساسية الخاصة بالحكمة والشفقة. لم تُنمي البوذية أبدًا سلطة دينية تراتبية ذات رئاسة عليا. بدلًا من ذلك، كل دولة انتشرت بها البوذية قامت بتطوير نظامها الخاص، هيكلها الديني، وزعامتها الدينية الخاصة بها. في الوقت الراهن، أكثر تلك الزعامات المعروفة وله احترام على المستوى الدولي هو قداسة دالاي لاما التبت.

لمحة تاريخية

هناك فرعين رئيسيين للبوذية: الهينايانا (الناقلة المتواضعة)، والتي تُركز على التحرر الفردي، والماهايانا (الناقلة الشاسعة)، والتي تركز على العمل من أجل الوصول إلى استنارة بوذا الكاملة من أجل أن يُصبح المتدرب في أفضل نفع لجميع الكائنات. كل من هذين التقليدين لديه العديد من من التقاليد الفرعية. في الوقت الراهن، فقط ثلاثة أشكال هي التي تبقت منهم: أحدهم هو التقليد الفرعي من الهينايانا في جنوب شرق آسيا، والمعروف باسم الثيرافادا، والاثنين الآخرين متفرعين من الماهايانا، هما تحديدًا التقليد الصيني والتقليد التبتي.

انتشر تقليد الثيرافادا في القرن الثالث قبل الميلاد من الهند لسريلانكا لبورما (ميانمار). من هناك، وصل حتى جنوب شرقي آسيا (تايلاند، كامبوديا ولاسو).

مدارس أخرى للهينايانا انتشرت حتى للدول التي يُطلق عليها اليوم باكستان، أفغانستان، شرق إيران وسواحلها، وآسيا الوسطى. ومن آسيا الوسطى، انتقلت تلك المدارس للصين خلال القرن الثاني. أشكال الهينايانا تلك اندمجت لاحقًا في جوانب تقليد الماهايانا التي جاءت عبر نفس الطريق من الهند، في النهاية أصبحت الماهايانا هي الشكل المسيطر للبوذية في الصين ومعظم دول آسيا الوسطى. لاحقًا انتقلت الماهايانا بطابعها الصيني إلى كوريا، اليابان وفيتنام.

بدأ تقليد الماهايانا التبتي في القرن السابع، وارثًا لكامل النمو التاريخي للبوذية الهندية. من التبت، انتشرت في كل أقاليم الهيمالايا ومنغوليا، آسيا الوسطى، والعديد من الأقاليم الروسية (بورياتيا، كالميكيا وتوفا).

بالإضافة لهذا، وبدءًا من القرن الثاني، الماهايانا الهندية انتقلت لفيتنام، كمبوديا، ماليزيا، سومطرة وجافا على أمتداد طريق التجارة البحري من الهند إلى جنوب الصين.

كيف انتشرت البوذية

كان انتشار البوذية في أغلب أنحاء آسيا سلميًا، وحدث بطرق عدة. سجل شكياموني بوذا السابقة الأولى بنفسه، حيث كان مُعلمًا رحالًا يشارك بصيرته مع هؤلاء المنفتحين والمهتمين من أبناء الممالك المجاورة. وَجَّه رهبانه بأن ينتشروا في العالم وينشروا تعاليمه. لكنه لم يطلب من الآخرين أن يُنكروا دياناتهم ويتركونها ويتحولوا لديانة جديدة، لأنه لم يكن يسعى لتأسيس ديانته الخاصة. كان هدف بوذا هو مساعدة الآخرين في التغلب على تعاستهم ومعاناتهم التي يخلقونها لأنفسهم، نتيجة لعدم فهمهم للواقع. الأجيال اللاحقة من متبعيه ألهمهم مثاله، وشاركوا مع الآخرين أدواته التي وجدوها نافعة في حياتهم. وهذا ما نُطلق عليه "البوذية" التي انتشرت في كل بقاع الأرض.

في بعض الأحيان تطورت الأمور بنفسها بشكل تلقائي. على سبيل المثال، عندما زار التجار البوذيون أماكن مختلفة واستقروا بها، بعض السكان المحليين نَمُّوا اهتمامًا طبيعيًا بمعتقد هؤلاء الأجانب، كما حدث مع دخول الإسلام لأندونيسيا وماليزيا بعد ذلك. نفس العملية حدثت أيضًا مع البوذية في الواحات التي تقع على طول طريق الحرير بوسط آسيا، خلال القرنيين السابقين على الميلاد. عندما عرف الحكام والسكان المحليين أكثر عن تلك الديانة الهندية، دعوا الرهبان من المواطن الأصلية للتجار الرُحَّل كمستشارين ومعلمين، وفي النهاية، تبنى الكثيرون المعتقد البوذي. طريقة طبيعية أخرى كانت عبر التشرب الثقافي البطيء للغزاة، مثلما حدث مع الإغريق الذين احتلوا المجتمع البوذي الذي كان يتوطن المدينة التي يُطلق عليها الآن غاندارا بوسط باكستان، بدءًا من القرن الثاني قبل الميلاد ولقرون بعد ذلك.

في الكثير من الأحيان كان يعود انتشار التعاليم، في المقام الأول، لتبني الحاكم للبوذية ودعمه لانتشارها بنفسه. في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، على سبيل المثال، انتشرت البوذية في شمال الهند كنتيجة لتبني الملك أتيشا لها. مؤسس الامبراطورية العظيم هذا لم يجبر أي من رعاياه على تبني البوذية، لكن عبر نشره للمراسيم المنحوتة على الأعمدة الحديدة ببلاطه يَحُث فيها رعاياه أن يعيشوا حياة أخلاقية، وعبر اتباعه بنفسه لتلك المبادئ، ألهم الآخرين أن يتبنوا تعاليم بوذا.

قام الملك أشوكا بالتبشير بالبوذية خارج نطاق مملكته بشكل فعال، عبر إرسال الإرساليات، وأحيانًا عبر غزوه للحكام الأجانب، مثل الملك سريلانكا، ديفانامبيا تيسا. أوقاتًا أخرى، كمبادرة منه، كان يرسل الرهبان كمبعوثين شخصيين عنه. هؤلاء الرهبان الزائرون لم يحاولوا أن يُحَّوِلوا الناس عن دينهم، لكنهم فقط كانوا يجعلون التعاليم البوذية متاحة للجميع، بما يسمح للناس أن يختاروا بأنفسهم. الشاهد على ذلك هو الكيفية التي تغلغلت بها البوذية في جنوب الهند وشرق بورما، وسريعًا ما استقرت البوذية هناك، بينما في أماكن أخرى مثل المستعمرات الإغريقية بوسط آسيا، لم تترك أي شواهد على أي تأثير لها هناك.

الملوك البوذيون الآخرون، مثل الملك المنغولي ألتان خان في القرن السادس عشر، دعا المعلمين البوذيين لبلاطه وأعلن البوذية الديانة الرسمية للبلاد، من أجل مساعدة توحيد رعاياه وتعزيز حكمه. خلال تلك العملية، من الوارد إنه قام بتحريم بعض المعتقدات غير البوذية، الديانات المحلية، وحتى حاكم هؤلاء من يتبعوها، ولكن مثل تلك الإجراءات القمعية النادرة كان دافعها الأكبر سياسي. إلا أن طموح الحاكم هذا لم يكن جزءًا منه إجبار رعاياه على اِتباع البوذية كنوع من الإيمان أو العبادة. هذا شيئًا بالكامل خارج المعتقد البوذي.

الخلاصة

أخبر بوذا الناس بألا يتَّبعوا تعاليمه عن إيمان أعمى، لكن أن يَتبعوها فقط بعد تفحصها بحرص. عندها فمن البديهي ألا يقبل الناس تعاليم بوذا بالإجبار أو من مبشرين متعصبين أو بمرسوم ملكي. في بدايات القرن السابع عشر، حاول نيجي توين أن يرشو بَدْو المغول الشرقيين لاِتباع بوذا بأن عرض عليهم مواشي عن كل بَيت يحفظوه. اشتكى البدو للسلطات، فتم عِقاب المُعلم المُستبد ونفيه.

بطرق عديدة، فقد نجحت البوذية باﻻنتشار في معظم آسيا بطريقة سلمية، محملة برسالتها القائمة على الحب، الشفقة والحكمة، بينما تتناسب مع احتياجات وميول البشر المختلفة.

Top