البوذية في الهند قبل حروب القرن الثالث عشر

مقدمة

مصطلحا هينايانا (زيج-دمان) وماهايانا (زيج-تشن) – ويعنيان المركبة المتواضعة أو "الأقل"، والمركبة الفسيحة أو "الأعظم" – قد ظهرا في البداية في "سوترا الإدراك المميز بعيد المدى" (تعني بالسنسكريتية "براجناباراميتا سوترا")؛ إتقان سوترات الحكمة، طريقةً للتعبير عن تفوق الماهايانا. وتاريخيًّا كان هناك ثماني عشرة مدرسةً سبقت الماهايانا، وكانت لكل مدرسة صورتها الخاصة المختلفة قليلاً عن قواعد الرهبنة في النظام. وعلى الرغم من اقتراح البعض أسماءً بديلة للإشارة إلى الثماني عشرة مدرسة كلية، إلا أننا سنستخدم المصطلحَ الأكثر شيوعًا بالنسبة لهم، ألا وهو هينايانا، ونحن لا نقصد من ذلك أي استهزاء أو تحقير.

[.انظر: مصطلحا هينايانا وماهايانا]

مدرسة الثيرافادا هي الوحيدة الموجودة حاليًّا من مدارس الهينايانا الثماني عشرة، وهي مزدهرة في سريلانكا وجنوب شرق آسيا. فحينما تقدم نصوص مدرسة الماهايانا الهندية والتبتية الآراءَ الفلسفية لمدارس الفايباشيكا والساوترانتيكا، فإن مدرستَي الهينايانا هاتين هما شعبتان من السارفاستيفادا، وهي مدرسةٌ أخرى من المدارس الثماني عشرة. ويستقي نظام الرهبنة البوذية أحكامَه من مدرسة المولاسارفاستيفادا، وهي شُعبةٌ ثالثة للسارفاستيفادا. وهكذا لا ينبغي للمرء أن يخلِط الصورة التبتية للهينايانا بالثيرافادا.

وتتبعُ التقاليد البوذية الآسيوية الشرقية قواعد الرهبنة لنظام مدرسة الدارماغوبتاكا، وهي مدرسةٌ أخرى من الثماني عشرة مدرسة.

شاكياموني بوذا

الأمير سيدارتا، الذي أصبح شاكياموني بوذا، عاش في وسط شمال الهند من عام ٥٦٦ م إلى ٤٨٦ ق.م. وبعد أن حصل على التنوير في سن الخامسة والثلاثين أخذ في التجوال متسولاً يُعلِّم الآخرين. وسَرعان ما تجمع حوله مجموعة من العزاب الراغبين في الحياة الروحية، ولازموه في أسفاره. وأخيرًا حينما نشأت الحاجة وَضَع بوذا قواعد نظامية لهذه المجموعة، ويلتقي "الرهبان" أربع مرات كل شهرٍ لتلاوة هذه الأحكام، وتنقية أية مخالفة ربما تكون قد حدثت.

وبعد عشرين سنة من تنويره بدأ بوذا عادةَ بقاء الرهبان في مكان واحد، في رياضة روحية مدةَ ثلاثة أشهر في الموسم المطير، ومن هذه العادة نشأت فكرة بناء الأديرة، وقبل وفاته بأعوامٍ قليلة بدأ بوذا أيضًا تقليد الراهبات.

[.انظر: حياة شاكياموني بوذا]

المجمع البوذي الأول

كان بوذا يُعلِّم بلغة الماغادها وبلهجة البراكريت منها، لكن لم يُكتب شيئًا أثناء حياته. وفي الواقع بدأت كتابة تعاليم بوذا في أوائل القرن الأول قبل الميلاد فقط، وقد أخذت من مدرسة الثيرافادا. وكتبت في سريلانكا باللغة البالية. أما في القرون السابقة على ذلك فقد حفظ الرهبان تلكم التعاليم باستظهارها وتلاوتها على فتراتٍ.

وقد بدأت عادة تلاوة تعاليم بوذا من الذاكرة بعد شهورٍ قليلة من وفاة بوذا، وحدث هذا في المجمع الأول الذي عقد في راجاغرها (يعرف اليوم براجغير) بحضور خمس مئة من أتباعه، وتسجل التقارير التقليدية أن كل المشاركين كانوا أرهات، أي كائنات متحررة.

وطبقًا لرواية الفايباشيكا فقد تلا ثلاثة من الأرهات التعاليم من الذاكرة، فإن وافق كل أعضاء المجمع على أن ما تلاه الأرهات الثلاثة هو نص ما قاله فهذا دليل على دقة التعاليم.

  • قرأ أناندا السوترا – وهي خطابات تتعلق بالأفكار المختلفة للممارسات.
  • وقرأ أوبالي الفينايا – أحكام نظام الرهبنة.
  • وقرأ ماهاكاشيابا الأبيدارما – وتتعلق بموضوعات خاصة عن المعرفة.

ولقد شكلت الأقسام الثلاثة من تعاليم بوذا المجموعات الثلاث الشبيهة بالسَّلة أو ما يُعرف ب"السِّلال الثلاث".

  • "سلة الفينايا"، وهي تحوي تعاليم عن الانضباط الذاتي الأخلاقي الأعلى.
  • "سلة السوترا"، وهي تحوي تعاليمَه عن التركيز المكثف الأعلى.
  • "سلة الأبيدارما"، وهي تحوي تعاليمَه عن الإدراك المميز أو "الحكمة" العليا.

ويشمل تقرير الفايباشيكا نقطة أنه لم يُتلَ كلُّ تعاليم بوذا في الأبيدارما في المجمع الأول، فبعضها نُقِلَ شفاهةً خارج اختصاص المجمع، ثم أُضيف لاحقًا.

وطبقًا لرواية الساوترانتيكا فإن تعاليمَ الأبيدارما التي تُلِيَت في المجمع لم تكن من كلمات بوذا على الإطلاق. فالنصوص السبعة للأبهيدارما المتضمنة في هذه السلة قد ألَّفها حقيقةً سبعة أرهات.

المجمع البوذي الثاني وتأسيس مدرسة الماهاسانغيكا

جرت وقائع المجمع البوذي الثاني في حضور سبع مئة راهب بفايشالي عام ٣٨٦ أو ٣٨٧ ق.م. وكان الغرض من هذا المجمع هو تسوية عشر قضايا تتعلق بنظام الرهبنة. والقرار الرئيس الذي وافقوا عليه هو عدم السماح لأي راهب بقبول الذهب، وبلغة اليوم يعني عدم السماح لأي راهب بالتعامل بالنقود. وعندئذٍ تلا المجمع "سلةَ الفينايا" للتأكيد على نقائِها.

وطبقًا لنص الثيرافادا فقد حدث أول انشقاق في مجتمع الرهبنة في هذا المجمع، وغادر الرهبان المخالفون ليشكلوا مدرسة الماهاسانغيكا، بينما الكبار الذين بقوا عُرِفوا بمدرسة الثيرافادا، وتعني كلمة "ثيرافادا" بلغة البالي: "أتباع كلام الكبار". بينما تعني كلمة "ماهاسانجيكا": "مجتمع الأغلبية".

وطبقًا لنصوص أخرى فإن الانشقاق الحقيقي جاء فيما بعد، في عام ٣٤٩ ق.م. ولم يكن مثار النزاع قضايا نظام الرهبنة، لكن قضايا فلسفية. وكان الخلاف حول ماهية الأرهات – الكائنات المتحررة – هل هي محدودة أم لا.

  • فقد أقر رواد مدرسة الثيرافادا بأن الأرهات محدودو المعارف، فعلى سبيل المثال قد لا يعرفون الاتجاهات في سفرهم، وقد يحتاجون إلى المساعدة في معرفة هذه الأمور، ومع ذلك فهم يعرفون كل ما يخص أمور الدارما، ويمكن للأرهات أن يكون لديهم شكوك حول بلوغه الهدف، لكنه لن ينتكس. ومع ذلك فقد أصرت الثيرافادا على أن الأرهات متحررٌ تمامًا من العواطف المزعجة ،مثل الرغبة.
  • أما الماهاسانغيكا، أو "مجموعة الأغلبية"، فقد خالفوا في مسألة العواطف المزعجة، فهم يؤكدون على أن الأرهات يمكن إغواؤه في أحلامه، فيحتلم في منامه؛ لأن الأرهات ما زال به أثرٌ للشهوة. وهكذا فقد وضعت الماهاسانغيكا تمييزًا واضحًا بين الأرهات وبوذا.

ولقد انجذب أتباع مدرسة الثيرفادا نحو الجزء الغربي لشمال الهند، بينما انجذب أتباع الماهاسانغيكا نحو الجزء الشرقي لشمال الهند، ثم انتشروا في آندرا في الجزء الشرقي من جنوب الهند، وهناك نشأت في آندرا مدرسة الماهايانا فيما بعد، ويرى علماء الغرب مدرسة الماهاسانغيكا رائدةً للماهايانا.

المجمع البوذي الثالث وتأسيس مدرستَي السارفاستيفادا والدارماغوبتاكا

في عام ٣٢٢ ق.م أسس تشاندراغوبتا ماوريا إمبراطورية ماوريا في المنطقة الوسطى من شمال الهند، المعروفة بالماجادا، وهي وطن البوذية. وسَرعان ما نمت الإمبراطورية حتى وصلت إلى أقصى حدٍّ لها تحت حكم الإمبراطور آشوكا ( حكم من سنة ٢٦٨ إلى ٢٣٢ ق.م)، وفي عصره امتدت إمبراطورية الموريا من شرق أفغانستان الحالية وبلوشستان إلى آسام، وغطت معظم جنوب الهند.

وفي عصر الإمبراطور آشوكا، وتحديدًا في عام ٢٣٧ ق.م، انفصلت مدرسة السَّارفاستيفادا أيضًا عن الثيرافادا؛ بسبب قضايا فلسفية معينة. فعقدت مدرسة الثيرافادا بمناسبة هذا الانفصال المجمع الثالث، الذي انعقد برعاية الإمبراطور في حاضرة إمبراطورية ماوريا: باتاليبوترا (وهي باتنا اليوم، عاصمة ولاية بيهار). ومع هذا فهم يؤرخون لهذا المجمع بعام ٢٥٧ ق.م، أي قبل انشقاق السارفاستيفادا بعشرين عامًا. وطبقا لما ذكرته مدرسة الثيرافادا فإن السبب يرجع إلى أنه بعد تأكيد هذا المجمع على نقاء وجهة نظر الثيرافادا، بدأ الإمبراطور آشوكا في العام التالي إرسال البعثات لنشر البوذية في مناطقَ جديدةٍ، في إمبراطوريته وغيرها. ومن خلال هذه البعثات قُدِّمت بوذية الثيرافادا إلى (غندهارا والسند) أو ما يعرف اليوم بباكستان، و(باكتريا) وتعرف حاليًّا بجنوب شرقي أفغانستان، وغوحارات، والجزء الغربي من جنوب الهند وسريلانكا وبورما. وبعد وفاة الإمبراطور آشوكا قدَّم ابنُهُ جالوكا السَّارفاستيفادا إلى كشمير. ومن هناك وصلت في النهاية إلى ما يُعرف اليوم بأفغانستان.

وبغض النظر عن موعد المجمع، فإن عملَه الرئيسَ آنئذٍ كان تحليل تعاليم بوذا، ودحض ما اعتبره شيوخ مدرسة الثيرافادا التقليديون آراءً خاطئة. وقد أعدَّ رئيس رهبان المجمع موغاليبوتا تيسا تفنيداتِهِ التحليلية في كتيب بعنوان "أسباب النزاع"، الذي أصبح النص الخامس من النصوص السبعة في "سلة الأبيدارما" في مدرسة الثيرافادا.

وهناك تقاليد أخرى لمدرسة الهينايانا لا تسجل هذا المجمع بنفس الطريقة التي سجلتها بها مدرسة الثيرافادا. وعلى أية حال فإن إحدى النقاط الفلسفية الرئيسة التي ثار النزاعُ حولها، وكان الانشقاق بسببها، هي وجود ظواهر ماضية وحاضرة ومستقبلية.

  • فقد أكدت مدرسة السَّارفاستيفادا أن أي شيء يمكن أن يُقسَّم إلى : أشياء لم تعد تحدث، وأشياء تحدث في الحاضر، وأشياء لم تحدث بعد. وهذا لأن الذراتِ التي تتكونُ منها الأشياء أبدية؛ والأشكال التي تتخذُها هذه الذرات هي فقط التي تتغير. وهكذا فإن الأشكالَ التي تتخذُها الذرات يمكن أن تتحول من أشياء لم تحدث بعد إلى أشياء تحدث حاليًّا، ومن ثَمَّ إلى أشياء لم تعد تحدث. غير أن الذراتِ التي تُكَوِّنُ كلاًّ من هذه الأشياء هي الذرات الأبدية نفسها.
  • لم تكن مدرسة الثيرافادا هي الوحيدة، وإنما الماهاسانغيكا أيضًا أكدت أن الأشياء التي تحدث حاليًّا فقط هي التي توصَفُ بالوجود، إضافةً إلى الأشياء التي لم تعد تحدث، أي التي لم تؤدِّ إلى نتيجتها بعد. وتتصف الأخيرة بأنها موجودة؛ لأنها ما زالت تستطيع أداء وظيفة ما.
  • اتفقت مدرسة السَّارفاستيفادا مع الماهاسانغيكا – رغم ذلك – على أن الأرهات – الكائنات المتحررة – لهم حدود في شكل آثار العواطف المزعجة.

وفي عام ١٩٠ ق.م انفصلت مدرسة الدارماغوبتاكا أيضًا عن الثيرافادا.

  • اتفقت الدارماغوبتاكا مع الثيرافادا في أن الأرهات ليس لديهم أحاسيس مزعجة.
  • ورغم ذلك مالت الدارماغوبتاكا – مثل الماهاسانغيكا – إلى رفع مقام بوذا، فأكدت على أن تقديم القرابين لبوذا أكثر أهميةً من تقديمِها للرهبان، وأكدت بشكلٍ خاص على أهمية تقديم القرابين لستوباس؛ وهي المنطقة التي تحوي آثار بوذا.
  • وقد أضافت الدارماغوبتاكا مجموعة أخرى رابعة شبيهة بالسلة، وهي سلة الداراني، وكلمة"داراني" تعني بالسنسكريتية "قوة الذاكرة"، وفي الترجمة التبتية: "الإجراءات الحيوية"، وهي صِيَغٌ سنسكريتية تعبدية تساعد الممارس حينما يُنشدها على حفظ كلماتِ الدارما ومعانيها؛ لكي يدعمَ الظواهر الطبيعية البناءة، ويستبعد المدمِّرةَ. وقد توازى هذا الداراني مع الروح التعبدية لذلك الوقت، التي تميزت بنشأة العمل الكلاسيكي الهندوسي "البهاغافاد غيتا".

ولقد انتشرت مدرسة الدارمابوجتا فيما يعرف اليوم بباكستان وأفغانستان وإيران ووسط آسيا، إلى أن وصلت إلى الصين. وتبنى الصينيون نسخة الدارماغوبتاكا في عهود الرهبان والراهبات، ونُقِلت هذه النسخة من نظام قواعد الرهبنة عبر العصور إلى كوريا واليابان وفيتنام.

المجمع البوذي الرابع

عقدت كلٌّ من مدرستَي الثيرافادا والسَّارفاستيفادا مجمعهما الرابع الخاص بهما.

عقدت مدرسة الثيرافادا مجمعَها الرابع عام ٢٩ ق.م في سريلانكا، في مواجهة العديد من المجموعات التي انشقت عن الثيرافادا بسبب الاختلافات في تفسير كلمات بوذا، وقد التقى ماهاراكيتا وخمس مئة من رُوَّاد مدرسة الثيرافادا لتلاوة كلمات بوذا وكتابتها للتأكيد على أصالتها. وفي هذه الحال كُتبت باللغة البالية. وهذه النسخة من مجموعة "السِّلال الثلاث" – "التيبيتاكا" – مشهورة باسم "أدب بالي الديني"، بينما استمرت مدارس الهينايانا الأخرى رغم ذلك في نقل تعاليمها شفاهةً.

ولقد نشأت بالتدريج داخل مدرسة السَّارفاستيفادا اختلافاتٌ عديدة في تفسير التعاليم، أولها ظهورًا كان سببًا في ظهور مدرسةِ الفايباشيكا. وعندئذٍ تطورت مدرسة الساوترانتيكا في عام ٥٠ م تقريبًا، ولكل منهما مفاهيمه الخاصة لنقاط عديدة من الأبيدارما.

وفي الوقت ذاته كان الموقف السياسي في شمال الهند وكشمير وأفغانستان على وشك التعرض لتغيير كبير؛ وذلك بدخول الغزو يويجي من آسيا الوسطى. وشعب يويجي شعب هندوأروبي، عاش أصلاً في تركستان الشرقية. وقد أسسوا مملكة كوشان بعد أن غزوا مساحة شاسعة في الغرب ثم الجنوب بنهاية القرن الثاني قبل الميلاد، تلك المملكة التي استمرت حتى عام ٢٢٦ م، وامتدت وهي في قمة مجدها إلى ما يُعرف اليوم بطاجيكستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، عبرَ كشمير وشمال غرب الهند، إلى وسط شمال الهند ووسط الهند. وقد تأثرت تلك المملكة البوذية بمؤثرات أجنبية متعددة؛ نتيجة لربطهم طريق الحرير بالموانئ البحرية عند مصب نهر إندوس، وبالمثل ومن خلال هذا التواصل دخلت البوذية الصين.

وكان أشهر حكام مملكة كوشان هو الملك كانيشكا، وطبقًا لبعض المصادر قد حكم من عام ٧٨ م إلى ١٠٢ م، أو من عام ١٢٧ م إلى ١٤٧ م حسب مصادر أخرى. وفي كلتا الحالين فقد عقدت مدرسةُ السَّارفاستيفادا مجمعَها الرابع في فترة حكمه، إما في حاضرة الدولة مدينة بوروشابورا (بيشاور الحالية)، أو في سريناجار بكشمير. ولقد نبذ المجمعُ الأبيدارما الخاصة بمدرسة الساوترانتيكا، ودوَّنَ أبهيدارما خاصة به في "التفسير الكبير"، وقد أشرف المجلسُ أيضًا على ترجمة نسخة السارفاستيفادا من مجموعة "السِّلال الثلاث" من اللهجة البركريتية من اللغة البالية إلى السنسكريتية، وعلى كتابة هذه النصوص السنسكريتية.

ولقد تفرعت مدرسة المولاسارفاستيفادا من تيار الفايباشيكا سارفاستيفادا في كشمير، بين القرنين الرابع والخامس الميلاديين. وفي أواخر القرن الثامن الميلادي تبنى التبتيون منهجًا في أحكام الرهبنة، وبعد قرون انتشرت من التبت إلى منغوليا وإلى المغول وبعض المناطق التركية بروسيا.

فروع مدرسة الماهاساجيكا

وفي غضونِ ذلك تفرَّعت مدرسة الماهاسانغيكا – التي يوجد معظمها بجنوب شرقي الهند – إلى خمس مدارس، اتفقت جميعها على أن الأرهات – الكائنات المتحررة – محدودة، وأن تماثيل بوذا هي الأرفع مقامًا. وكل مدرسة منها طوَّرَت هذه العقيدة أكثر من ذلك، ممهدًا الطريق لظهور مدرسة الماهايانا. أمَّا ما يتعلقُ بالمدارس الثلاث الرئيسة:

  • مدرسةُ اللوكوتَّارافادا: أكدت على أن بوذا كائنٌ فائقٌ، وجسده يتجاوز تلك الأجساد التي تفنى أو تهلك في هذا العالم. وقد شَكَّل هذا التأكيد الأساسَ لتفسيرِ الماهايانا لمفهوم الجثامين الثلاث (الجثث الثلاث) لبوذا. وانتشرت مدرسةُ اللوكوتَّارافادا في أفغانستان حيث بنى أتباعُها تماثيل بوذا العملاقة في باميان في وقتٍ ما بين القرنين الثالث والخامس الميلادي، تلك التماثيل التي تعكس وجهة نظرهم عن مدى تعالي بوذا.
  • مدرسة الباهوشروتيا: أكدت على أن بوذا نقل تعاليمَ هذا العالم وتعاليم ما وراء هذا العالم. وقد أدى هذا إلى انقسام مدرسة الماهايانا في مسألة جسد بوذا بين رفات بوذا ذي الفيوضات، ورفاتهِ ذي الاستخدام الكامل.
  • وقد انفصلت مدرسةُ التشايتيكا عن مدرسة الباهوشروتيا، مؤكدةً أن بوذا كان مستنيرًا بالفعل قبل ظهورِه في هذا العالم، وكان يُظهر تنويرَه فقط ليُرِيَ الطريقَ للآخرين. وقد قبلت مدرسةُ الماهايانا أيضًا هذا التفسيرَ فيما بعد.

ظهورُ الماهايانا

ظهرت الماهايانا سوترا بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي في آندرا بجنوب شرقي الهند، وهي المنطقة التي ازدهرت فيها مدرسةُ الماهاسانغيكا. وطبقًا للمصادر التاريخية البوذية التقليدية فإن هذه السوترات (التعاليم الشفهية لبوذا) علَّمها بوذا بنفسه، ولكنها نُقِلت شفاهة بطريقة أكثر خصوصيةً حتى صارت من أعمال مدرسة الهينايانا. وبعضها حُفِظ في عوالِم غير بشرية.

على أن أهم سوترا ماهايانا ظهرت على الملأ في ذلك الوقت كانت في:

  • أثناء القرنين الأول والثاني ظهرت "سوترا الإدراك المميز بعيد المدى" و"سوترا تعليمات بشأن فيمالاكيرتي"، وتختص الأولى بفراغ (خواء) كل الظواهر الطبيعية، بينما تصف الثانية البوديساتفا الدنيوية.
  • وفي عام ١٠٠ م تقريبًا ظهرت "سوترا مصفوفة أرض النعيم (النقية)"، مقدِّمةً أرض سوكافاتي النقية للأميتابا، أي بوذا ذي النور اللانهائي.
  • وفي عام ٢٠٠ م تقريبًا ظهرت "سوترا لوتس الدارما المقدسة"، مؤكدةً على قدرة كل واحد في أن يصبحَ بوذا. وهكذا فإن كل وسائط التعاليم تتناسب مع بعضها البعض، بوصفها وسائلَ ماهرةٍ غرضُها تعبديٌّ للغاية.

ومن داخل الماهايانا ظهرت أيضًا مدرستا مادياماكا والتشيتاماترا، وكان أول ظهورٍ لهما في آندرا بجنوب الهند.

  • ومدرسةُ مادياماكا من آثار ناغارجونا، الذي عاش في آندرا بين عامي ١٥٠ م ٢٥٠ م، وهو مفسِّرُ "سوترا البراجناباراميتا". وطبقًا للمصادر التاريخية التقليدية فقد استعاد ناغارجونا هذه السوترات من أعماق البحر؛ حيث أخفاها الناغا حمايةً لها منذ كان بوذا يعلمُها على منقار نسرٍ، على مقربةٍ من راجاغرها وسط شمال الهند. والـ"ناجا" هم كائنات نصفها بشر ونصفها ثعبان، وهي تحيا تحت الأرض وأسفل المسطحات المائية.
  • أما مدرسةُ التشيتاماترا فقد اعتمدت في وجودها على "سوترا الهبوط إلى لانكا"، وعلى الرغم من ظهور هذه السوترا أولاً في آندرا فإن تعاليم التشيتاماترا قد نالت مزيدًا من التطوير على يد أسانغا الذي عاش في جراندهارا، وتعرف اليوم بوسط باكستان، وذلك خلال النصف الأول من القرن الرابع الميلادي. وقد ألقى مايتريا بوذا هذه التعاليم على أسانغا في رؤيا رآها.

تطوير جامعات الرهبنة والتانترا

بُنِيت أول جامعة رهبانية بوذية في نالاندا على مقربة من راجاغرها في بداية القرن الثاني الميلادي، وقد درَّس فيها ناغارجونا، كما فعل العديد من سادة الماهايانا اللاحقين. وقد ازدهرت جامعات الرهبنة هذه على وجه الخصوص، رغم ذلك، مع تأسيس مملكة غوبتا في أوائل القرن الرابع الميلادي، وقد أكد منهجُهم على دراسة نُظُم المعتقد الفلسفي. وانخرط الرهبان في مناظرة شديدة مع أنصار المدارس الست الهندوسية والجينية التي نمت بين القرنين الثالث والسادس الميلادي.

ونشأت التانترا أيضًا بين القرنين الثالث والسادس الميلادي، مع أول ظهور لها في آندرا جنوب الهند. وكانت هذه "التانترا غوهياساماجا"، وقد كتب ناغارجونا عدة تعليقاتٍ عليها. وطبقا للتقليد البوذي فقد نُقِلت التانترا أيضًا شفاهةً من زمن تعليم بوذا إياها، لكن بطريقة أكثر خصوصيةً مما كانت عليه تعاليم سوترا الماهايانا.

وسَرعان ما انتشرت التانترا شمالاً من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن التاسع الميلادي، وقد ازدهرت بوجهٍ خاص في أوديانا ، أو ما يعرف بوادي سوات في شمال غرب باكستان. وأحدث تانترا ظهرت كانت "التانترا كلاتشاكرا" في أواسط القرن العاشر الميلادي.

وقد وصلت الجامعات البوذية الرهبانية إلى قمة مجدها خلال مملكة بالا (٧٥٠ م – أواخر القرن الثاني عشر الميلادي) في شمال الهند. وقد بُنِيَت جامعاتٌ أخرى جديدة برعايةٍ مَلَكية، مثل جامعة فيكراماشيلا. وقد قُدِّمت التانترا للدراسة في بعض هذه الجامعات الرهبانية، خاصةجامعة نالاندا. غير أن دراسة التانترا وممارستها قد ازدهرت أكثر خارج الأديرة، خاصة مع تقليد الأربع والثمانين ماهاسيدا بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلادي. والماهاسيدا هم أبرع الممارسين للتانترا.

Top